مقالات
مصر وإسرائيل: نحو نهاية "السلام البارد"؟
على الرغم من انقلاب حكومة بنيامين نتنياهو على اتّفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في قطاع غزّة، واستئناف الحرب ضد غزّة (18/3/2025)، لم يرتقِ رد فعل مصر إلى مستوى هذا التحدّي الإسرائيلي، الذي يكشف ثلاث دلالات: أولاها تصاعد التوافق بين واشنطن وتل أبيب على استكمال حرب الإبادة على غزّة، وتنفيذ مخططات تهجير أهلها. وثانيتها عدم اكتراث الطرفين الأميركي والإسرائيلي بمخرجات القمّة العربية الطارئة في القاهرة (4/3/2025)، خصوصاً خطة إعادة إعمار غزّة. وثالثتها عدم جدّية إدارة دونالد ترامب في إنهاء حرب غزّة أو إحلال السلام في المنطقة، وتوجّه واشنطن نحو تصعيد الضغوط على الأطراف الفلسطينية والعربية والإقليمية، لكي يرضخ الجميع لمنطق الصفقات "الترامبية"، التي تهدف إلى "استنزاف/ حلْب" ثروات المنطقة، وإخراج إسرائيل من مأزقها المتصاعد مع الشعب الفلسطيني، ومشكلاتها الكثيرة على الصعيد العربي/ الإقليمي، وإعادة دمجها وتطبيع وضعها الإقليمي إجمالًا.
وفي سياق تحليل تحديات السياسة المصرية، غداة الذكرى السادسة والأربعين لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (27/3/1979)، خصوصاً كيفية تعامل القاهرة مع تداعيات حرب الإبادة على غزّة، وانعكاسات ذلك كله على مسار الصراع العربي الإسرائيلي، وسيناريوهاته المستقبلية، ثمّة أربع ملاحظات: أولاها تفاقم أزمة السياسة المصرية، والسياسات العربية عموماً، في التعامل مع السياستين، الأميركية والإسرائيلية، تجاه حرب غزّة، لا سيما قضية التهجير؛ إذ رفضت واشنطن وتل أبيب مخرجات القمّة العربية، التي اعتمدت خطة إعادة إعمار القطاع، كي تكون بديلاً لخطة الرئيس ترامب (الرامية إلى وضع القطاع تحت السيطرة الأميركية، وتهجير الغزّيين إلى مصر والأردن).
واللافت أن أطرافًا عربية عديدة عوّلت على الخطة المصرية، كما تكشفه ثلاثة مؤشرات: أولها تصريح العاهل الأردني عبد الله الثاني (11/2/2025)، بأن مصر تعمل على بلورة خطة بشأن إعادة الإعمار في غزّة. والثاني انعقاد قمّة عربية مصغرة في الرياض (21/2/2025)، ضمت قادة الدول الخليجية ومصر والأردن، لمواجهة كيفية الرد على الخطة الأميركية. وثالثها تأجيل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، زيارته المخطط لها لواشنطن، مفضّلًا الوصول إلى البيت الأبيض بموقف عربي موحد.
وعبر تحليل تراكمي، يمكن القول إن مشهد تغوّل الفاعل الإسرائيلي (المدعوم أميركيّاً بلا حدود) على فلسطين والإقليم عموماً، في مقابل عجز الفاعل المصري وتردّده، يكشف محدودية إنجازات مدرسة الاشتباك السياسي، ونهج التسوية المصرية عموماً، الذي دشّنه الرئيس أنور السادات قبل قرابة خمسة عقود؛ إذ فقدت مصر (وكل الدول العربية) زمام المبادرة في علاقتها بإسرائيل، وانحسر دور القاهرة في أداء دور "الوسيط"، بدلاً من "الطرف الأصيل" في الصراع مع إسرائيل، وانزلقت مصر نحو الضغط على الطرف الفلسطيني، لتقديم تنازلات أكبر، خصوصاً بعد اتفاقية كامب ديفيد (1978)، وبعد اتفاق أوسلو (1993)، بحيث تضمن بقاء "الحالة الفلسطينية" برمّتها، ضمن معادلة السياسات الأميركية الإسرائيلية، وبما لا يتناقض مع مصلحة مصر في التسوية والتطبيع.
تتعلق الملاحظة الثانية بتآكل تأثير البعد الرسمي العربي في مسار القضية الفلسطينية وتحوّلاتها، خصوصاً بعد عملية طوفان الأقصى (7/10/2023)، التي دشّنت مرحلة مختلفة من الصراع بين العامل الذاتي الفلسطيني المقاوِم والعامل الدولي (بالأحرى الأميركي/ الإسرائيلي)؛ إذ جاء أداء الإطار العربي ومؤسّسات جامعة الدول العربية شديد الضعف، على الرغم من تكرار انعقاد القمم العربية والإسلامية، إذ لم تستطع تنفيذ قرارات القمّة العربية الإسلامية في الرياض (11/11/2023)، بشأن كسر الحصار على غزّة، وإجبار إسرائيل على إدخال قوافل الغذاء والدواء والوقود.
وغنيٌّ عن البيان أن كسر حصار غزّة لن يتحقق من دون إرادة سياسية صلبة تقارع/ تتحدّى الضغوط الأميركية/ الإسرائيلية، وتُجبر إسرائيل على التزام البروتوكول الإنساني على الأقل، علماً أن أي تطوير للموقف الرسمي العربي والإسلامي لا يبدو ممكناً دون تغيير الموقفين، المصري والسعودي، في ضوء أمريْن: أحدهما أن تأثير مصر في الصراع العربي الإسرائيلي لا يُقارن بأي دولة أخرى (وكما يقال "مصر هي العقدة والحل"). ولا يزال بإمكان مصر، بحكم الجغرافيا والديمغرافيا وموقعها المركزي، بالنسبة إلى أية مشروعات إقليمية أو دولية في المنطقة، أن تعمل على "تجميع الإرادة الفلسطينية"، كما فعل الرئيس جمال عبد الناصر إبّان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية (1964-1965). مع تأكيد حاجة القاهرة لتغيير تحالفاتها العربية الراهنة في هذا الصدد (تحالف مصر الجزائر أهم بما لا يُقاس بعلاقات مصر مع الإمارات، التي تلعب أدواراً في تشتيت الفلسطينيين، فضلًا عن التقرّب من إسرائيل ومشروعاتها).
الأمر الآخر، أن الرياض تستطيع الضغط سياسيّاً ودبلوماسيّاً على واشنطن من أجل فكرة "دولة فلسطينية" (علماً أن تجسيدها على الأرض يبقى مسألة أصعب وأكثر تعقيداً). وبإمكان الرياض أيضاً توفير ائتلافات أوروبية ودولية داعمة لهذه الفكرة، التي قد تكون أهم النتائج الدبلوماسية الملموسة لحرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، مع التأكيد أن مصر تبقى الدولة العربية الأقدر على الضغط عسكريًا على إسرائيل لوقف الحرب، حتى تستعيد الدولة السورية قدراتها ومكانتها (ربما في غضون عشر سنوات أو أقل)، بحيث يمكن ممارسة الضغط عسكريًّا على دولة الاحتلال، من ناحيتي مصر وسورية، من دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية شاملة بالضرورة.
تتعلق الملاحظة الثالثة بضرورة مراجعة نهج التسوية العربي العقيم، وربما التخلّي عنه كليًّا؛ فليس مصادفة بالتأكيد الرفض الأميركي الإسرائيلي للمبادرة المصرية لإعمار غزّة، تماماً كما تجاهلت واشنطن وتل أبيب المبادرة العربية للسلام التي اعتمدتها القمّة العربية في بيروت 2002؛ إذ على مصر والدول العربية جميعاً الإجابة عن أسئلة مصيرية (مثل "ماذا سيفعلون في حال رفض إسرائيل مبادراتهم وسعيهم نحو "السلام الحقيقي"، في غياب كل الشروط الموضوعية لتحقيق قدر من العدالة والحرية للشعب الفلسطيني؟"، و"ما هي خطة العرب الاستراتيجية لمواجهة إسرائيل؟"، و"هل هناك فهم استراتيجي لتحوّلات الحركة الصهيونية، التي لم تعد تريد حلاً وسطاً مع الشعب الفلسطيني، بدليل توجّهها إلى نمط "حروب الإبادة" و"الترانسفير؟". و"ما جدوى التمسّك بطرح مبادرات وأفكار وخطط، من دون إجابات عملية على تصاعد التحدي الإسرائيلي؟").
واستطرادًا، تحتاج مصر والدول العربية قاطبة، الانفتاح على قوى المقاومة الفلسطينية وتدشين علاقات رسمية معها، منعًا لتحقيق الأهداف الإسرائيلية/ الأميركية من حرب غزّة، التي تشكّل تداعياتها التراكمية المستمرّة ضررًا بالغًا على النسيج الاجتماعي لقطاع غزّة، وضغطًا نفسيًا هائلًا على المجتمعات العربية بكاملها لقبول إبادة الفلسطينيين على الهواء مباشرة، علمًا أن هجوم 7 أكتوبر (2023) لم يأتِ من فراغ (حسب تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس 24/10/2023).
وغنيّ عن البيان تأكيد أن أغلب الدول العربية تدرك أن "طوفان الأقصى" رد فلسطيني على تهميش التسوية الإقليمية قضية فلسطين وحقوق شعبها، كذلك فإن التفاف الشعوب العربية، أقله وجدانيًا، حول المقاومة الفلسطينية، يؤكّد أن التسوية والتطبيع ليسا خيارًا شعبيًّا، بل هي خيارات رسمية/ نخبوية فحسب.
تتعلق الملاحظة الرابعة بأهمية تخفيف النظام القيود عن الداخل المصري، بغية تصليب عوده في مواجهة تحوّل الضغوط الخارجية (خصوصًا الأميركية الإسرائيلية)، نحو ابتزاز القاهرة لتغيير موقفها من تهجير الفلسطينيين، كما جاء في تصريحات مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، لقناة فوكس نيوز، بشأن "هشاشة الوضع الاقتصادي في مصر، وارتفاع معدل البطالة بين المصريين إلى 45%، بما يهدد بسقوط الدولة، وانتشار الفوضى والاضطراب الأمني بالمنطقة، وتصاعد أزمة الهجرة إلى أوروبا".
وبعيدًا عن تحليل تصريحات ويتكوف، فإن كل الخطوات المصرية بعد لقاء نتنياهو الرئيس ترامب (4/2/2025)، تندرج في إطار تكتيكي/ إعلامي؛ إذ لا تكفي أبدًا لمواجهة الضغوط الأميركية على النظام المصري، ما قد يدفع إلى أحد ثلاثة احتمالات: أولها تآكل قدرات النظام المصري في ضبط الأوضاع الداخلية نتيجة تردّي الأحوال المعيشية لقطاعات واسعة من المصريين، ما يمهّد للاحتمال الثاني، حصول حراك في الشارع المصري شعبي (أو اندلاع ثورة شعبية جديدة، تأثّرًا برياح التغيير والمصالحات الوطنية وإعادة بناء كيانات الدولة في الإقليم، سيما في سورية وفلسطين والأردن ولبنان)، وهذا هو أفضل السيناريوهات، مقارنةً بالاحتمال الثالث، "انفلات" الشارع المصري، وصولًا إلى حالة "فوضى جزئية أو "كاملة"، تنطوي على احتمال بروز تيارات راديكالية (جهادية، أو حتى فوضوية عنفية)، نتيجة العنف الهائل الذي مارسته إسرائيل (بدعم أميركي غربي، وصمت عالمي شبه مطبق)، في حرب الإبادة على قطاع غزّة. (أسوأ السيناريوهات المصرية والعربية والإقليمية، الذي ستعمل إسرائيل على توظيفه).
يبقى القول إن القاهرة بحاجة ماسّة لاتخاذ خطوات جادة لوقف تآكل دورها الإقليمي، سيما في مواجهة إسرائيل، وإعادة بناء الإرادة العربية حول دعم المقاومة الفلسطينية، توطئةً لتدشين ائتلاف عالمي، مدني/ شعبي ورسمي، داعم لقضية فلسطين، علمًا أن العلاقة المصرية الإسرائيلية تتجه نحو أزمات أعمق، بسبب مخطّطات التهجير وتفاقم تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، التي تهدّد في الصميم "السلام البارد" بين القاهرة وتل أبيب، ما يعني، في التحليل الأخير، أن الصراع العربي الإسرائيلي يتجه نحو التصعيد إجمالاً، على الرغم من استمرار احتمال التوصل إلى تهدئات/ تسويات جزئية، على نحو يخفّف العبء، ولو آنيًّا، عن الشعب الفلسطيني الصامد في أرضه، إلى حين اندلاع ثورات عربية جديدة تعيد الأمور إلى نصابها، وتضع دولة الاحتلال في "حجمها الحقيقي".