مقالات
عن نيّة فرنسا الاعتراف بدولة فلسطينية
اعترفت عشرات الدول بالدولة الفلسطينية التي أعلنها المجلسُ الوطني الفلسطيني في الجزائر (1988). لاحقاً، تمسّكت دول مؤثّرة بضرورة أن يتوّج الاعتراف نهاية مفاوضات سلام مع إسرائيل، ما ترك حقّ تقرير مصير الشعب الفلسطيني رهناً بيد الاحتلال الذي تنصل طويلاً من استحقاقات السلام، قبل أن يُعلِن رسمياً في يوليو/ تموز 2024، عبر قرار الأغلبية في الكنيست، رفضه قيام دولة فلسطينية عرقل مقوّماتها سنوات.
دفع نَسفُ إسرائيل هدف العملية السلمية، وإصرارها على المضي في جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية في غزّة، دولاً إلى إعلان اعترافها بالدولة الفلسطينية. وأخيراً، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ما كرون، الأربعاء الماضي،، أن بلاده بصدد الاعتراف بـ"دولة فلسطينية" في غضون أشهر، ما يعني، إنْ حدث، أن تصبح فرنسا العضو الأوروبي الثاني عشر الذي يعترف رسمياً بدولة فلسطينية.
واعتراف فرنسا، دولةً بارزةً في أوروبا تحوز عضويةً دائمةً في مجلس الأمن، ومن بين أكثر شركاء إسرائيل التجاريين أهميةً، بل صاحبة فضل في تسليح إسرائيل نوويّاً، قد يدفع دولاً أوروبية أخرى نحو خطوة مماثلة، لا سيّما المملكة المتحدة، التي تواجه حكومتها ضغوطاً متزايدةً من نوّاب "العمّال البريطاني" للانضمام إلى فرنسا، والاعتراف بدولة فلسطين.
استبق ماكرون ردّات الفعل المتوقّعة إسرائيلياً، فوضع الاعتراف المُزمَع في سياق "ديناميكية جماعية" تتيح اعتراف دول أخرى بإسرائيل، مؤكّداً أن الاعتراف سيسمح لفرنسا بأن تكون واضحةً في "المعركة" ضدّ "الذين ينكرون حقّ إسرائيل في الوجود".
مع ذلك، جاء ردّ وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر سريعاً، فكتب في "إكس" أن "الاعتراف الأحادي بدولة فلسطينية خيالية... تعزيز لحركة حماس"، ما دفع ماكرون إلى التوضيح عبر صفحته في المنصّة نفسها، فقال: "نعم للسلام، نعم لأمن إسرائيل، نعم لدولة فلسطينية من دون حماس".
لم يبدُ هذا التوضيح مقنعاً لبنيامين نتنياهو، الذي هاجم ماكرون الأحد الماضي، فأكّد رفضه تعريض أمن إسرائيل للخطر من أجل "أوهام منفصلة عن الواقع" (دولة فلسطينية). قد يستثمر ماكرون علاقته القوية بكير ستارمر لدفع بريطانيا إلى موقف مماثل يُعلَن في مؤتمر دولي لحلّ الدولتَين في نيويورك (يونيو/ حزيران المقبل)، تترأسه كلٌّ من السعودية وفرنسا، يراه ماكرون مناسبةً لإعلان اعتراف "جماعي" بالدولة الفلسطينية، متحصّناً خلف ما يبدو مبادرةَ سلام أوروبية خليجية، في مواجهة واشنطن وتلّ أبيب.
اعتراف فرنسا (وغيرها) بفلسطين دولةً (خصوصاً من دون تحديد طبيعتها وحدودها) خطوةٌ ليست كافية، فمن بين 193 دولةً عضواً في الأمم المتحدة، تعترف بفلسطين دولةً ذاتَ سيادةٍ 148 دولةً، لكن ذلك لم يؤدِّ إلى قيام دولة فلسطينية، بل أصبح وجود الفلسطيني في أرضه مهدّداً بعد نكبات متتالية، مع استمرار التطهير العرقي والضمّ المستمرّ للأراضي، في ظلّ فشل المجتمع الدولي في لجم إسرائيل ومحاسبتها، بل هناك من يقدّم لها دعماً مستمرّاً.
لنتذكّر أن فرنسا تقاعست سابقاً عن الانضمام إلى إسبانيا وأيرلندا والنرويج للاعتراف بدولة فلسطين، وإلى إسبانيا وأيرلندا لمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وأنها انتهكت نظام روما الأساسي الذي قامت عليه المحكمة الجنائية الدولية، فمنحت نتنياهو حصانةً ضدّ مذكّرة توقيفه الصادرة من "الجنائية الدولية"، كما تستمرّ في بيع الأسلحة لإسرائيل.
لا ينبغي للاعتراف أن يبقى خطوةً رمزيةً من دون مسار سياسي يرسم الدولة الفلسطينية وفق الشرعية الدولية، وبلا آليات تنفيذ تلزم إسرائيل، فالرموز مهمّة فقط حين تكون الوحيدة في متناول اليد، ولا ينبغي للاعتراف بالدولة الفلسطينية أن يكون فرصةً لتملّص الأسرة الدولية من مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه المقتلة المستمرّة بحقّ الفلسطينيين، إن أرادت أن تُحدث فارقاً في مواجهة دعم غير محدود تقدّمه إدارة ترامب لنتنياهو.
قبل أيّام، حثّت رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني إيميلي ثورنبيري الغربَ على التحرّك سريعاً للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإلا فلن "تبقى فلسطين للاعتراف بها". نُضيف، إذا لم يُعترَف بحقّ الفلسطيني في الحياة بوقف حرب الإبادة، فلن تتوافر للفلسطيني فرص التمتّع بحقّه في تقرير المصير في دولة فلسطينية مُعترَف بها.