مقالات
عسكرة "معاداة السامية" في زمن حرب غزة
"معاداة
السامية" مسألة مزمنة في أميركا وأخذ
مسارها تعبيرات مختلفة كانت فاقعة أحياناً، وسبق وأن عملوا على تسييسها واستخدامها
مرادفاً لمعاداة الصهيونية وذلك وسيلة لإسكات الأصوات الأميركية المعترضة على، أو
المنزعجة من، سياسات إسرائيل. مع حرب غزة جرى تضييق مفهومها، وصارت إدانة الانتهاكات الإسرائيلية ضد
المدنيين محفوفة بخطر توجيه هذه التهمة التي قد تؤدي، لو ثبتت عناصرها، إلى الطرد
من البلاد إذا كان المشتبه به أجنبياً (خاصة فلسطيني أو من يرتبط بعلاقة فلسطينية)
حتى لو كان مقيماً بصورة شرعية في الولايات المتحدة.
وجرى إلصاق تهمة "معاداة
السامية"، أمس الخميس، بطالب هندي متزوج من فلسطينية ويعمل باحثاً في جامعة جورج تاون بواشنطن مع إصدار قرار بترحيله، لكن الاستعانة السريعة
بالقضاء أوقفت الإجراء لصدوره بدون محاكمة، وقبل أيام تعرض لذات السيناريو الطالب
الفلسطيني محمود خليل، المتزوج من فلسطينية أميركية والذي يحمل بطاقة الإقامة الخضراء،
وتدخل القضاء أيضاً ومنع تسفيره ريثما تجري محاكمته وبعدها يبنى على الشيء مقتضاه،
ومن المتوقع حسب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يتوالى المزيد من هذه الحالات في
قادم الأيام.
في الحالتين السابقتين، استأثر اللجوء
إلى هذه الطريقة في التعامل مع التعبير عن الرأي، ولو كان حاداً، بحيّز ملحوظ من
الأضواء والاهتمام، وأثار الكثير من المخاوف بسبب قفزه فوق الإجراءات والأصول
القانونية، كما صبّ الزيت على نار الحديث المتداول حول المخاطر التي تهدد الحريات
المدنية وعلى رأسها حرية التعبير التي يكفلها الدستور، فلو كان قرار الترحيل بتهمة
"معاداة السامية " صدر عن المحكمة لما أثيرت حوله هذه الضجة لكنّ تجاهل
القضاء في"بلد القانون" قرع جرس الإنذار.
وهناك جانب آخر ينطوي على مزيج من
الازدواجية والمبالغة في الموضوع، فقضية "معاداة السامية" ليست حكراً
على الساحة الطلابية، إذ كانت موجودة وما زالت في الساحة السياسية الأميركية ومن
دون محاسبة بالرغم من بشاعتها، وساهمت شرائح واسعة من "اليمين واليسار في
أميركا" في "رفع موجة العداء للسامية في الولايات المتحدة" حسب
زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ السناتور اليهودي شاك شومر، الذي يقول في
كتاب له، صدر قبل أيام قليلة بعنوان "معاداة السامية في أميركا: تحذير"،
إن هناك بعض الأوساط داخل السلطة عملت على ترويج معاداة السامية لاستخدامها مبرراً
لقمع الحريات المدنية، ويضيف أن "بعض الحركات اليمينية الأميركية ساعدت، عن
عمد أو بدونه، في تفشي معاداة السامية ولو سُمِح لها بتعزيز حضورها في أوساط
اليمين المتشدد، لأصبح هذا العداء حالة مترسخة في المجتمع الأميركي"، ويرى
مراقبون أن "معاداة السامية" تفشت وصارت منتشرة ولا تحتاج لمزيد من
الوقت لترسيخها. وكانت صحيفة واشنطن بوست ذكّرت بأن ترامب نفسه أعطى انطباعات في
هذا الاتجاه عبر قوله مرة بأنّ "اليهود الذين لا يؤيدونه ليسوا مخلصين"،
وأنه لو خسر الانتخابات "فإن اليهود سيتحمّلون المسؤولية".
وذكرت دورية "فوروارد"
اليهودية أنّ وزير الدفاع بيت هيغسيث أوعز مؤخراً بحذف ثلاث صفحات موثّقة عن
الهولوكست من منصة البنتاغون بذريعة أنها مصنّفة في خانة الوثائق والصور التي تعزز
"التنوع والاندماج" بما يستحضر نظرية "البديل القائلة بأن النخب في
أميركا، خاصة اليهود منهم، تحاول عبر الهجرة والتغيير السكاني تقليص التأثير
المجتمعي للأميركيين البيض"، الكلام من هذا النوع، الذي يتراوح بين الغمز من
قناة اليهود وبين رميهم باتهامات مباشرة مثل ازدواجية الولاء، يعكس بدرجة أو أخرى
حالة غير ودية تجاه السامية، وهذا خطاب يتردد على لسان جهات أميركية معروفة
بمعاداتها للسامية ويمر تكراره من غير محاسبة ولا عقاب، طبعاً ليس من المتوقع أن
تجري معاملة الأجانب أو المقيمين بمثل هذا التغاضي في هذه القضية، لكن ما تطالب به
الجهات الطلابية والأكاديمية والحقوقية أن يتمتع المتهم بضمانات المحاكمة القضائية
العادلة التي كادت عسكرة "معاداة السامية" في حالة حرب غزة أن تؤدي إلى
نسفها.