حرب بوتين السيبرانية هدفها إطاحة مركل حامية الليبرالية في أوروبا
رفع تدخّل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية من منسوب مخاوف القادة الأوروبيين من قرصنة الكترونية روسية تستهدف قاعدة بيانات ومعلومات ومراسلات الأحزاب الأوروبية الليبيرالية للتأثير في مسار الانتخابات التشريعية المرتقبة هذا العام في ثلاث دول هي : ألمانيا وفرنسا وهولندا. وتزايدت شكاوى دول في اوروبا في مقدمتها ألمانيا والتشيك وفرنسا وبلغاريا والسويد ودول البلطيق وغيرها، من هجمات سيبرانية روسية بهدف تقويض انظمتها الديموقراطية وأمنها القومي. وأعلنت المفوضة العليا للشؤون السياسية والأمنية في الاتحاد فيديركا موغيريني عن وضع آليات لمراقبة ودحض ما سمته حملة( تضليل اعلامي روسية) لتشويه الديموقراطية الأوروبية.
وكشفت وكالة حماية الدستور (الاستخبارات الداخلية) في ألمانيا عن «هجوم الكتروني ضد حواسيب منظمة الأمن والتعاون الأوروبي». وقال رئيسها هانز- غيورغ مانسن:» تحليلاتنا اثبتت ان البنية التحتية للهجوم هي نفسها التي انطلقت منها هجمات سابقة طاولت البرلمان الألماني مصدرها روسيا» تقوم بها مجموعة ( ايه تي ار28 ) وتعني» التهديد المتواصل المتطور». ويقول الخبير في الشؤون الألمانية ألكسندر أندرييف:» تأكد للسلطات الألمانية ان روسيا تسعى للتأثير في انتخابات البوندستاغ « بطريقين: شن حملة لنشر المعلومات الزائفة التي من شأنها زرع مشاعر انعدام الأمن في الأوساط الاجتماعية وخلق حالة من الارتباك والاضطراب لدى الناس، والهجمات السيبرانية ضد حواسيب المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية بغية الوصول الى معلومات سرية ومن ثم نشر بعضها خارج سياقاتها للتأثير في خيارات الناخبين في الاقتراع.
وقال فولفغانغ بوسباخ مستشار الشؤون الخارجية في الحزب الديموقراطي المسيحي بزعامة مركل:» تجري محاولات عبر التسلل من الخارج بهدف التلاعب بحقائق ومعلومات في الانتخابات التشريعية لزعزعة استقرار بلدنا». ورأى مصدر ديبلوماسي أوروبي رفيع في تصريح نقله موقع صحيفة «هافينغتون بوست» ان « المستشارة مركل هي الهدف الأول لحملة التضليل الإعلامي الذي تشنها روسيا، مرجحاً ان تتسع هذه الحملة مع اقتراب الانتخابات».
حروب التضليل
تعد الرابطة المتغيرة في المعلومات المتاحة بين مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي برأي خبراء الميديا» مدخلاً مثالياً للتضليل المعلوماتي». وحذرت السلطات الألمانية من دعاية تقوم بها روسيا من خلال مواقع ومنصات مختلفة للتأثير في الانتخابات لمصلحة التيارات الشعبوية. وتوقعت اجهزة الأمن حصول هجمات محتملة على البنى التحتية مثل محطات توليد الطاقة او المستشفيات مماثلة للهجوم الذي تعرضت له دويتشه تيلكوم ، والبوندستاغ عام 2015. في هذا السياق كشفت شركة الحماية الإلكترونية (ترند ميكرو) عن هجوم روسي ضد منظومة حواسيب الحزب الديموقراطي المسيحي، اضافة الى شركتي خدمات الرسائل الإلكترونية في ألمانيا (جي إم اكس) و ( ويب . دي). وذكرت مجلة «شبيغل» نقلاً عن مصادر امنية» ان السلطات الأمنية تمتلك أدلة داحضة عن تورط روسيا في شن هجمات سيبرانية عرفت باسم ( سوفاسي /آي بي تي 28) تهدف الى جمع معلومات ذات اهمية استراتيجية، وهجمات اخرى تحمل تسمية ( حملة ساندوروم) التي هدفها تخريب المعلومات»، وقالت المجلة « ان الإنترنت تحول الى ميدان لحرب هجينة» كما فتح مجالات واسعة للتجسس والتخريب». ووفق المحللة الفرنسية نتالي غيبير فإن» لا فائدة ترجى من المظلة النووية الأميركية في نزاعات جديدة تسمى هجينة».
في كتابه الصادر في 2004 بعنوان «عصر ما بعد الحقيقة: نقص الأمانة والخداع في الحياة المعاصرة»، يقول المفكر الأميركي رالف كييس : « في الماضي، كانت الحقيقة والأكاذيب. اليوم لدينا الحقيقة والأكاذيب اضافة الى بيانات لا يعتد بها، وعلى قدر ما هي ثانوية لا تفند ولا يقال انها خاطئة ومضللة». ويضيف: «في عالم ما بعد الحقيقة والوقائع تلتبس الحدود بين الحقيقي والخيالي، وبين النزاهة وغيابها، وبين الخيال والواقع الفعلي».
رصدت الأجهزة الأوروبية ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الهجمات السيبرانية ضد المفوضية الأوروبية خلال العام الماضي وقالت انها تجاوزت 110 هجمات، ونبه المفوض الأوروبي للأمن جوليان كينغ في تصريح نقلته صحيفة «فايننشال تايمز» الى «ان هذه التهديدات اصبحت منتظمة وعدوانية الى حد انها يمكن ان تتحول في اي لحظة الى تدميرية». وقال: «ان الهجمات التي تسبب اكبر الأضرار هي تلك التي تستهدف الديموقراطية الأوروبية».
ووفقاً لخبراء الأمن المعلوماتي فإن» الهجمات السيبرانية المختلفة والمتعددة تلجأ الى وسائل وأدوات متشابهة، الا انها تحرص على اخفاء مصدرها وهوية الطرف الذي يديرها». وصدرت تعليمات مشددة من المفوضية الأوروبية الى موظفي جميع الهيئات والمؤسسات الأوروبية تلزمهم استخدام عناوين إلكترونية مشفرة، وسارعت المفوضية الى تفعيل وتوسيع تعاونها في مجال الأمن المعلوماتي مع حلف الأطلسي. وتجري مشاورات على اعلى المستويات في المنظمتين حول كيفية التصدي للهجمات السيبرانية التي تشنها روسيا والرد عليها بأقصى العقوبات.
وتشير بيانات الـ «ناتو» الى ان عدد الهجمات الإلكترونية التي تعرضت لها حواسيب الحلف خلال شهر واحد فقط من عام 2015 بلغ اكثر من 320 هجوماً، وأبلغت مصادر اطلسية رفيعة الصحيفة نفسها «ان هذه الهجمات تميزت بتصاعد تدريجي فعال في قوتها التدميرية مع تحسن نوعيتها وشدة تعقيدها».
هيئات مضادة وأموال اضافية
خصص الاتحاد الأوروبي مبالغ بقيمة 860 ألف يورو اضافية لفريق العمل «إيست ستراتكوم» المكلف برصد وصد الهجمات الإلكترونية الروسية، وتفنيد المعلومات المضللة التي تبثها موسكو عبر مواقع ومنصات متعددة للتاثير في امزجة الرأي العام في الدول الأوروبية». وكانت هذه الهيئة انشئت في خريف عام 2015، وتتألف من 11 موظفاً يتولون مهمة الرد على الهجمات والدعاية الإلكترونية. ويقدر مسؤولون اوروبيون «ان روسيا تنفق بليون دولار سنوياً على وسائل اعلامية مملوكة للدولة مثل قناة روسيا اليوم ووكالة سبوتنيك للأنباء وغيرهما، كما ورصدت موازنة خاصة لعدد كبير من الشركات وكلفتها بمهمة اغراق مواقع التواصل الاجتماعي بمواد نقدية وساخرة معادية للديموقراطية الغربية».
قام طاقم «ايست ستراتكوم» بعمل مكثف استغرق اكثر من 15 شهراً تمكن خلالها من رصد وتحديد 2500 موقع الكتروني بـ 18 لغة تمولها روسيا بهدف نشر معلومات وقصص مختلقة ومعلومات كاذبة تركز على الإساءة للمستشارة مركل وتتهمها بالتسبب في تقويض امن ألمانيا وأوروبا بفتح الحدود امام اللاجئين والمهاجرين من الشرق الأوسط.
تنبهت فرنسا الى أخطار وتهديدات سيبرانية قد تتعرض لها خلال الانتخابات العامة التي ستجرى في آيار (مايو) من العام الجاري وذلك بعد تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية لمصلحة ترامب، وبعد اعلان ألمانيا تعرضها لهجمات الكترونية قوية من روسيا. وقال وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودريان» ان الجيش الفرنسي سيعزز موارده للتصدي لأي هجمات الكترونية»، وأضاف في تصريح نقلته عنه اسبوعية «لو جورنال دو ديمانش» الفرنسية» ان هناك خطراً حقيقياً بوقوع هجمات إلكترونية على البنية الأساسية المدنية مثل شبكات المياه والكهرباء والاتصالات والنقل، بالإضافة الى هجمات ضد الديموقراطية ومؤسسات الميديا». وكشف الوزير «ان عدد الهجمات الإلكترونية التي تعرضت لها وزارته تضاعف خلال العام الماضي، ولكنها نجحت في احباط 24 ألف هجوم استهدفت تعطيل انظمة الطائرات الفرنسية بلا طيار»، وأكد «ان عدد الجنود الرقميين في الجيش الفرنسي سيتضاعف الى 2600 بحلول عام 2019 بدعم من 600 خبير إلكتروني اضافيين». مشدداً على «ان فرنسا في حال تعرضت لهجوم الكتروني جديد سترد بنفس القوة وبالأسلحة التقليدية ايضاً».
ولا تخفي موسكو ارتياحها للمرشح الرئاسي المحافظ فرنسوا فيون الذي اشاد بالرئيس بوتين وقال انه يريد تحسين علاقات بلاده مع روسيا». كما لا يخفي الكرملين علاقته مع مرشحة اليمين القومي المتطرف مارين لوبان التي مول حملاتها في الانتخابات المحلية العام الماضي.
فريق قراصنة بوتين
السويد هي الأخرى اشتكت من هجمات إلكترونية متزايدة في العام الماضي. وكشف المتحدث باسم وكالة الاستخبارات الوطنية في حديث إلى التلفزيون الوطني «ان بلاده تعرضت العام الماضي الى 100 ألف هجوم سيبراني بمعدل 10 آلاف هجوم في الشهر». وأوضح «ان هدف الهجمات هو سرقة معلومات سرية، واستخدام الحواسيب المستخدمة في المؤسسات السويدية في هجمات إلكترونية ضد دول ثالثة». وأقر رئيس الحكومة ستيفان ليوفن أن بلاده تواجه مجموعة تهديدات جدية في مجال الأمن، من بينها أخطار الهجمات السيبرانية».
وتوافرت ادلة داحضة لدى شركة «كراود سترايك» لأمن المعلومات الأميركية عن مجموعتي قرصنة هما «فانسي بير» و «كوزي بير» الأولى ترتبط بجهاز الأمن الفيديرالي الروسي (إف إس بي) فيما الثانية ترتبط بجهاز الاستخبارات العسكرية الروسية ( جي آر يو). ويجمع الخبراء على «ان الهاكرز الروس بارعون، وهذا تقليد متوارث من عهد الاتحاد السوفياتي عندما كان رائداً في التجسس الاقتصادي». وذكر رئيس تحرير موقع «أجينتا رو» المتخصص في قضايا التجسس أندري سولداتوف انه «بالنظر الى تاريخ روسيا في الهجمات المعلوماتية، فأنا اميل الى الاعتقاد بأن هناك تنسيقاً بين جهات خاصة وحكومية على اعلى المستويات». يرى الخبير المتخصص في شؤون اجهزة الأمن الروسية مارك غاليوتي «ان جهاز (جي آر يو) اصبح السلاح السري الأثير على قلب بوتين وذراعه الضاربة في الحرب وعالم السيبيرنيطيقيا». ويؤكد المحلل مايكل ويس في مقال كتبه في موقع «ذي دايلي بيست» الأميركي» لقد ثبت ان المسؤول عن الأعمال العدائية المستمرة في اوروبا هي جهة واحدة، الاستخبارات العسكرية الروسية».
دأبت السلطات الروسية منذ فترة على بث تسجيل فيديو ترويجي في وسائل التواصل الاجتماعي، تدعو فيه الشباب الروسي وطلاب الجامعات الذين يتمتعون بمهارات في مجال تقنيات المعلوماتية والشبكات الإعلامية الإلكترونية الى الانضمام للعمل في «الوحدة العلمية» بوزارة الدفاع». وتشكل فريقان من القراصنة احدهما يحمل اسم «الدببة الرائعة» والآخر»الدببة الدافئة». وتحدثت صحيفة «دي فيلت» الألمانية عن ثلاث فرضيات عن هوية العاملين في هذين الفريقين، تتمثل الأولى في انهم ضباط في الجيش الروسي يمتلكون خبرات كبيرة في مجال المعلوماتية» ، فيما الثانية «ان السلطات تعاقدت مع مجموعة من القراصنة الروس للقيام بمهمات محددة»، اما الثالثة « فمن منتمين الى شركات تكنولوجيا الاتصالات الروسية». ويقول الخبير الروسي في مجال امن المعلومات ديمتري ألبيروفيتش» ان الكرملين يبحث بشكل متزايد عن المساعدة من القطاع الخاص وشركات السلامة المعلوماتية».
يشهد العالم الإلكتروني حرباً شرسة بين القوى العالمية تكاليفها لا تقل مأساوية عن الحرب الفعلية، وقد أصبحت الفيروسات والبرامج الخبيثة من أقوى أسلحة هذه الحرب، بعد ان نجح جميع الأطراف في ابتكار فيروسات خبيثة متطورة. ويشير تقرير دولي الى «ان عدد الهجمات الإلكترونية الخبيثة في عام 2010 وصل الى اكثر من 200 مليون هجوم، سببت وفق دراسة اعدتها شركة «سيمانتيك» المتخصصة في مجال مكافحة الهجمات الإلكترونية «خسائر تصل الى 114 بليون دولار». وفي تقرير صدر عام 2011 « ان هذه الهجمات تكلف 274 بليون دولار تنفق لمعالجة خسائرها المادية والتقنية».
الروس فخورون بهيبة بوتين
تحظى سياسات بوتين الهجومية والعدوانية في اوروبا والشرق الأوسط بقبول ودعم متزايد في اوساط المواطنين الروس كونها تشبع نزعاتهم القومية وتذكرهم بأمجاد وتاريخ الدولة السوفياتية متجاهلين ان هدفها هو حرف أنظارهم عن تعقد حياتهم المعيشية مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي تعيشها البلاد. ويتضح من استطلاع للرأي اجرته منظمة «الرأي العام» ونشرت تفاصليه وكالة «انترفاكس» الروسية» ان غالبية من شاركوا في الاستطلاع يعتقدون بأن العالم اصبح يخشى روسيا وقوتها الصاعدة، ويرون في ذلك تطوراً نوعياً يخدم المصالح الوطنية الروسية»، فقد اكد 85 في المئة ان العالم اخذ يحسب ألف حساب للقوة الروسية، واعتبر 75 في المئة ان هذا مفيد للغاية، هذا فيما رأى 48 في المئة ان العالم اصبح يتعاطى مع روسيا بشكل افضل مقابل 42 لاحظوا العكس. ورأى 67 في المئة ان نفوذ وتأثير روسيا في العالم يتعاظم في السنوات الأخيرة، وربط 14 في المئة ذلك بتنامي قوة الدولة عسكرياً، فيما عزا 11 في المئة ذلك الى سياسات الكرملين الخارجية، مقابل 7 في المئة اكدوا ان الفضل في ذلك يعود بالدرجة الأساسية للرئيس بوتين». هذا فيما كشف استطلاع اجرته وكالة «رويترز- أبسوس» ان 82 في المئة من الأميركيين يعتبرون روسيا تهديداً مباشراً، وأظهر استطلاع آخر اجرته مؤسسة «يوغوف» ان 59 في المئة من الأميركيين يعتقدون» ان التهديد العسكري الروسي جدي للغاية». ورأى المحلل الروسي في «مركز ليفادا» لاستطلاعات الرأي ألكسي ليفينسون «ان مشاعر الارتياح تعمّ أوساط الروس في ما يخص «ان العالم يخاف منا» وربما تعوضهم عن الخيبة من المشاكل الكبيرة والجدية التي يواجهونها في حياتهم اليومية». وقال» تسود قناعة اكيدة لدى غالبية الروس بأن الجيش الأحمر بعد احتلال القرم والحرب في سورية هو الأقوى من بين كل جيوش العالم».
نقلا عن صحيفة الحياة