مقالات

خطط المملكة المتحدة للاحتفال بكارثة وعد بلفور

خطط المملكة المتحدة للاحتفال بكارثة وعد بلفور

لورنس دافيدسون* – (كونسورتيوم نيوز) 14/3/2017

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

قبل قرن من الآن، أسس وعد بلفور البريطاني كارثة الحقوق الإنسانية المتمثلة في الصراع الإسرائيلي-الفسطيني، ولكن الساسة البريطانيين يخططون -لأسباب انتهازية- للاحتفاء به باعتبار أنه شكل نجاحاً عبقرياً.

*   *    *

أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية، تريزا ماي، أن بريطانيا ستحتفل بالذكرى المئوية لوعد بلفور في وقت لاحق من هذا العام. وكانت زعيمة حزب المحافظين تخاطب فصيل “أصدقاء إسرائيل” في حزبها، وأعلنت أن وعد بلفور كان “من أكثر الرسائل أهمية في التاريخ”، بينما تعهدت بأن تحتفل حكومتها به “بكل فخر”.

يشير تصميم تريزا ماي على الاحتفال بمئوية بلفور بوضوح إلى أن أولئك الذين يسيطرون على السياسة الوطنية، يسيطرون أيضاً على التفسير الرسمي للتاريخ. وفي حالة مرور مائة عام على وعد بلفور، فإن ذلك التحالف المستمر بين المصالح الصهيونية الخاصة وبين السلطة السياسية في بريطانيا، هو الذي يوشك على تحويل ما شكل كارثة على البريطانيين واليهود والفلسطينيين على حد سواء، إلى مصدر للفخر الوطني.

كنتُ قد رويت قصة وعد بلفور بتفاصيل موثقة في كتابي “فلسطين أميركا”. وفيما يلي موجز مقتضب لما ورد في أطروحته:

كان إعلان تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1917 إحدى وسائل الحرب العالمية الأولى، والتي استخدمتها الحكومة البريطانية من أجل حشد المساعدة من يهود العالم (الذين اعتُقِد خطأ بأنهم يعملون جميعاً تحت قيادة المنظمة الصهيونية العالمية الوليدة)، لصالح الجانب البريطاني من الحرب. وفي المقابل، وعدت الحكومة البريطانية بإقامة “وطن قومي لليهود”، في شبه الجزيرة العربية بعد الحرب. وبفعلها ذلك، سعت بريطانيا إلى شراء مساعدة اليهود بعملة طرف آخر -بمعنى، منح أرض كانت تعود في ذلك الحين إلى الإمبراطورية العثمانية.

كان أعضاء رئيسيون في وزارة الحرب في لندن، مثل وزير الخارجية آرثر بلفور، مؤمنين بأسطورة قوة اليهود ونفوذهم في كل أنحاء العالم، وعلى ذلك الأساس، كانوا مقتنعين بأن النفوذ اليهودي في واشنطن يمكن أن يساعد على جلب الولايات المتحدة إلى الحرب كحليف لبريطانيا، بينما يقوم في الوقت نفسه بمنع حلفائهم على الجبهة الشرقية، الروس، من مغادرة الحرب. ومع أن الولايات المتحدة دخلت الحرب بعد فترة وجيزة فعلاً، فإن ذلك التدخل لم تكن له أي صلة بنفوذ اليهود، كما أن الروس، الذين أصبحوا في ذلك الوقت تحت قيادة البلاشفة، مضوا إلى إبرام سلام منفصل مع الألمان.

في نهاية الحرب العالمية الأولى، انهارت الإمبراطورية العثمانية، ووجدت بريطانيا نفسها في موقف السيطرة العسكرية على فلسطين. وعندئذٍ، ذهبت الحكومة في لندن إلى متابعة الوفاء بوعدها للصهاينة. وفعلت ذلك من خلال السماح بهجرة جماعية ليهود أوروبا إلى فلسطين. وعند هذه النقطة، كانت السياسة مدفوعة بمزيج من المعتقدات الدينية والعنصرية، إلى جانب الطموحات الإمبريالية.

أولاً، هناك حقيقة أنه كان يُنظر إلى اليهود على أنهم حلفاء أوروبيون، والذين زُعِم أنهم سيساعدون على تأمين جزء استراتيجي من الشرق الأوسط للإمبراطورية البريطانية؛ وثانياً، كان هناك اعتقاد أسطوري ساحر بأن إنشاء وطن قومي لليهود ينسجم بشكل ما مع تحقيق نبوءة إنجيلية. وفي النهاية، لم يتمخض أي من هذا عن خير بالنسبة للبريطانيين. ففي العام 1948، تم طردهم من فلسطين على يد كل من الصهاينة العدوانيين العنيفين والوطنيين العرب. وخرج البريطانيون وهم يجرون أذيالهم بين أرجلهم.

والآن يبدو أن رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، وجماعة حزبها من “أصدقاء إسرائيل” يرفضون هذا التاريخ. أو أنهم ربما لا يهتمون بشأن الحقائق الموثَّقة، لأن كل ما يهمهم الآن هو الاحتفاظ بالدعم المالي الذي يتلقاه حزب المحافظين من اللوبي الصهيوني. ويبدو أن هذا هو حال السياسة الديمقراطية في الغرب.

كارثة في كل مكان

من الجدير تأكيد حقيقة أن تداعيات وعد بلفور كانت كارثية بكل مقياس. فقد دامت الهيمنة البريطانية 30 عاماً، وانتهت، كما ذكرتُ تواً، بانسحاب مُخزٍ غير مجيد. ومن جهة أخرى، عانى الفلسطينيون عقوداً من الحرمان والإبعاد والتطهير العرقي.

كما أن اليهود المتدينين والعلمانيين على حد سواء، المنتمين إلى دولة إسرائيل التي نجمت عن ذلك، والذين أصبحوا مقيدين رسمياً الآن بروح الصهيونية، خضعوا للإغواء وتم تحويلهم ثقافياً إلى اعتناق أيديولوجية عنصرية. واليوم، أصبحت الصهيونية واليهودية بالنسبة للعديد من اليهود وجهان لعملة واحدة. وتتمثل إحدى الطرق التي يستطيع المرء بها إثبات هذه النقطة الأخيرة في استنطاق الأيديولوجية الصهيونية. لكنه وسم في هذه الحالة بأنه معادٍ للسامية.

كيف حدث وأن مرَّ هذا الموقف؟ من المؤكد أن لتاريخ اللاسامية الأوروبية، والذي بلغ ذروته في حادثة المحرقة اليهودية، الكثير من الصلة بذلك. فقد شكلت معاداة السامية دائماً تهديداً لليهود في الغرب. ومع ذلك، كان ذلك التهديد، تقليدياً، محلياً في معظمه. بمعنى أنه حتى لو أن يهود قرية يهودية صغيرة معينة، ولنقل في جنوب روسيا، تعرضوا للذبح، فإن أولئك الموجودين في أماكن أخرى كانوا يزدهرون. وبذلك، كان الخطر حاضراً دائماً هناك، وإنما تحقق بشكل متقطع.

ولكن، عندئذٍ جاء النازيون وتغيرت أبعاد التهديد بشكل جذري. ونتيجة لذلك، حدث انهيار كامل لحياة اليهود الأوروبيين. وبالنسبة لعدد يعتد به منهم، لم تعد الاستبصارات والفلسفات القائمة على التوراة القديمة والتي تفسر العالم تكفي.

وإذن، ما الذي فعله أولئك اليهود الغربيون الذين تمكنوا من النجاة في مثل هذه الظروف؟ كان نظامهم الاجتماعي المعتاد قد ذهب. وأصبحوا منجرفين على غير هدى في عالم بدا غير منطقي وبلا معنى، إلا عندما يتعلق الأمر بخطره المميت. وفي ظل ظروف من هذا النوع، استطاعت فكرة واحدة قابلة للتطبيق، والتي بدت منطقية تاريخياً، أن تعمل بمثابة طوق للنجاة. كانت تلك الفكرة هي الصهيونية.

بدت الصهيونية منطقية تاريخياً لأنها مزجت بين النجاح التاريخي للدولة-الأمة، التي كانت بعد كل شيء نظاماً سياسياً مهيمناً في ذلك العصر، وبين الأسطورة التوراتية التي عقلنت فكرة قيام “دولة يهودية” في أرض فلسطين العربية. وبالنسبة لكل من الناجين من الهولوكوست وأولئك اليهود الذين شاهدوا دمار أقرانهم الأوروبيين من بعيد (أي، من أماكن مثل الولايات المتحدة)، لا بد أن تكون الحزمة كلها قد انطوت على منطق داخلي بدا مريحاً بطريقة لا تمكن مقاومتها –حيث وعدت بتحقيق أمن دائم في وطن قومي يهودي.

بينما يستطيع المرء أن يفهم القوة المغوية للصهيونية، فإنها أفضت فقط، مثل كل الأيديولوجيات السياسية العنصرية أو العرقية حصراً، إلى كارثة متوقعة. والحقيقة هي أن من المستحيل خلق دولة تكون مقصورة حصرياً على شعب واحد (فلنسمهم الشعب “أ”) في منطقة يقطنها مسبقاً شعبٌ آخر (فلنسمهم الشعب “ب”) من دون اعتناق لسياسات عنصرية من طرف الشعب “أ”، وظهور مقاومة جديد من جانب الشعب “ب”. وفي ظل مثل هذه الظروف، بالنسبة للشعب “أ”، لا يمكن أن يكون هناك أي أمن، ولا أن يكون هناك أي شيء مثل ثقافة وطنية صحيَّة.

أثبتت العملية أنها كلها برمتها مفسِدة ذاتياً لليهود الصهاينة. ومن المفارقات أن معظم الصهاينة الآن أصبحوا هم أنفسهم لاساميين. وفي هذه الحالة، أصبحت الأهداف السامية هي الفلسطينيون والعدد المتزايد من اليهود الأوروبيين الذين يتقاطرون لدعم قضيتهم.

وهكذا، تستند الخطط للاحتفال بالذكرى المئوية لوعد بلفور إلى وهم يحاول أن يتصور شيئاً مريعاً مروعاً باعتباره شيئاً فخوراً حقاً. والطريقة الوحيدة التي تمكن المرء من جعل هذا يحدث هو أن تكون لديه القدرة على تحريف وتشويه فصل تاريخي كامل إلى شيء آخر ليس هو على الإطلاق -وهذا هو ما تخطط تيريزا ماي لفعله.

*أستاذ التاريخ في جامعة ويست تشيستر في بنسلفانيا. وهو مؤلف “مؤسسة السياسة الخارجية: خصخصة المصلحة القومية الأميركية”؛ و”فلسطين أميركا: التصورات الشعبية والرسمية من بلفور وحتى تأسيس دولة إسرائيل”؛ “الأصولية الإسلامية”.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Celebrating the Balfour Disaster

الميزان الاستراتيجي للأمن الإسرائيلي في الحلبتين الإقليمية والدولية .. مشجع جداً

الميزان الاستراتيجي للأمن الإسرائيلي في الحلبتين الإقليمية والدولية .. مشجع جداً

بقلم: دان شيفطان

رئيس «مركز دراسات الأمن القومي» في جامعة حيفا

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ما يزيد على رُبع قرن، لم تطرأ تغيرات جدية في البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل من شأنها التأثير على المقومات الأساسية لأمنها القومي. ويرتبط منحى التأثيرات المحتملة لهذه التغيرات – سلباً وإيجاباً – إلى حد كبير، بالطريقة التي تختارها إسرائيل لمواجهة هذه التغيرات والتعامل معها.

إن التحدي الماثل أمام القيادة القومية صعب ومعقد، لأن هذه المواجهة تجري في ظروف استثنائية من الغموض والالتباس. وتزداد هذه الظروف صعوبة، بشكل خاص، على خلفية تضافر استثنائي لاضطرابات وتقلبات في الحلبتين الإقليمية والدولية لم نشهد لها مثيلاً منذ منتصف القرن الفائت.

وفي المقابل يتكرس في الحلبة الإسرائيلية الداخلية ويتمأسس تحول سياسي واجتماعي يؤثر بصورة عميقة، في الطريقة التي تعتمدها القيادة القومية في مواجهة التحديات على الساحتين الإقليمية والدولية. –

الحلبة الشرق أوسطية

 اتضح منذ بداية العقد الحالي أن الهزة التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط تقود إلى طريق مسدود. فهذه الهزّة ليس فقط لم تشكل مدخلاً لمعالجة الإخفاقات البنيوية في العالم العربي فحسب، بل تبيّن أيضاً أن هذه الإخفاقات لا تقتصر على الأنظمة العربية فحسب، وإنما تعكس أيضاً فشل التيار المركزي في المجتمع العربي في مواجهة تحديات القرن الـ21 (بل والقرن الـ 20 أيضاً بمعان كثيرة).

ولا تشمل هذه الإخفاقات الأطر السياسية التي انهارت أو تلك التي تواجه خطر الانهيار فقط، بل أيضاً تلك التي أصبحت تدرك أن الخطر محدق بها على نحو يلغي أي إمكانية لإجراء إصلاحات عميقة قد تؤهلها لمواجهة الواقع المستجد.

ويشكل هذا المأزق في الاقتصاد والمجتمع تهديداً جدياً حتى على الدولة العربية الكبرى والأكثر أهمية واستقراراً التي تقوم منذ آلاف السنين على ضفاف النيل. –

وفي ظل هذا المأزق، تتنامى في المنطقة قوى راديكالية، عربية وغير عربية، تدمج ما بين عدم الرضى عن الوضع القائم، ورفض الانفتاح على العالم الحديث، وهلوسات العظمة والهيمنة.

واستولت مثل هذه القوى على الحكم في الدولتين العظميين غير العربيتين في المنطقة ـ في إيران قبل نحو 40 عاماً وفي تركيا قبل عقد ونصف العقد. –

وأخيراً ظهر عامل غير دولتيّ لا يحاول حتى المتظهر بمظهر حديث، ويستند إلى أسس قبلية وولاءات بدائية في سعيه إلى فرض طهرانية إسلاموية، بوحشية استثنائية. وأصبح واضحاً اليوم أن الحديث لا يجري عن أزمة عابرة، بل عن سمة بنيوية يُتوقع أن تصمم مستقبل المنطقة في المستقبل المنظور، برغم الاستثناءات المحتملة في هوامشه.

ويعني هذا التطور بالنسبة لإسرائيل نشوء الحاجة إلى التعامل في المدى المنظور مع بيئة إقليمية تمتاز بعدم الاستقرار المزمن والعنف المبالغ فيه، والإحباط العميق، والغيرة المرّة في المحيط الذي يشعر بالإحباط من قصة النجاح التي حققتها الدولة اليهودية.

وأوهام التسعينيات بشأن «شرق أوسط جديد» يسعى إلى الدمقرطة والتسوية، تضطلع فيه إسرائيل بدور حاسم في تحقيق السلام الإقليمي من خلال اتفاق اختراقي مع منظمة التحرير الفلسطينية، أخلت مكانها على ضوء التجربة المريرة مع الفلسطينيين وانتكاسة «الربيع العربي»، لنظرة واقعية قاتمة. ولا تزال هذه النظرة تتيح لإسرائيل إمكان تقوية نفسها وإحداث تحسين مهم في ميزان أمنها القومي ـ كما سنفصل لاحقاً ـ لكن التوقعات والأدوات الاستراتيجية اللازمة لضمان ذلك وتحقيقه مختلفة تماماً بصورة جذرية. –

الحلبة الدولية

 نشهد في الحلبة الدولية خلال الفترة الأخيرة تحولاً مهماً في الميزان السياسي والثقافي في المجتمعات المنفتحة.

فقد أدى تضافر بعض السيرورات الاقتصادية والاجتماعية إلى زعزعة ثقة الجمهور بالنخب السلطوية وغيرها، وإلى تآكل شرعية النظام السياسي وارتباك أدائه. والمقصود هنا أساساً ما تراكم من إسقاطات العولمة التي شجعت نقل خطوط إنتاج عديدة إلى دول تكلفة العمل فيها متدنية، ما أتاح توافد أعداد كبيرة من المهاجرين من ثقافات أخرى إلى الدول الغربية المتطورة. –

واستفاد من هذه السيرورات بوجه خاص وأساسي مثقفون وشبان نجحوا في الاندماج في تلك المجتمعات، وسكان المراكز المدينية الكبرى، ومبادرون مقتدرون أحسنوا استغلال هذه الفرص الجديدة. –

أما سكان الأطراف، وخصوصاً من المسنين الذين يفتقرون إلى المؤهلات الملائمة، فقد راقبوا، بخوف وقلق ضياع مكانتهم ومصادر رزقهم حيال التوافد المتزايد للمهاجرين، مما شكل خطراً على نمط حياتهم. وجاء احتجاجهم السياسي في صناديق الاقتراع ليس فقط ضد ضياع أملهم الاقتصادي وتعمق الفجوات بينهم وبين الناجحين الجدد وفساد النخب، وإنما أيضا ضد الأيديولوجية الكوسموبوليتية التي استهدفت المحافظة على الوجهات الجديدة وحمايتها وتعزيزها.

تفسر هذه الظاهرة إلى حد كبير التحول السياسي الذي حصل في الولايات المتحدة، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتشدد أنجيلا ميركل في ألمانيا، وصعود اليمين في فرنسا وهولندا ودول أوروبية أخرى.

فهي تفرض على القيادات السياسية إبداء تفهم لمشكلات ناخبيهم من خلال التشديد على الأهداف القومية على حساب الكوسموبوليتية والإنسانية.

ومما يثير قلق فئات مسؤولة في أوساط «يسار ـ الوسط» و»يمين ـ الوسط» أن هذه الظاهرة لا تكتفي بإصلاح التشوهات المَرَضية في الليبرالية التي حادت عن مسارها، بل تشجع أيضاً أوساطاً مَرَضية في اليمين المتطرف وتسبغ عليه شرعية خطيرة.

ثمة منفعة لإسرائيل في فقدان نخب اليسار في الولايات المتحدة وأوروبا هيمنتها وثقتها بنفسها، غير أن صعود اليمين بمكوّناته المرضية، هو سيف ذو حدين.

فقد قدّست هذه النخب أحياناً الحرب ضد المركّبات «الكولونيالية ـ الأبارتهايدية ـ الفاشية» التي أُلصقت بإسرائيل، والتي اصطبغت بألوان لاسامية في بعض الأحيان.

يتميز تعامل القيادة الإسرائيلية مع الواقع الإقليمي، باستثناء مكوّن مهم واحد، بالحنكة والمسؤولية. أمّا التحدي الجديد في الحلبة الدولية فهو آخذ في التمأسس في هذه الأيام. ونظراً إلى أن الرد الإسرائيلي في هذا المجال لم يتبلور بعد، فمن السابق لأوانه الحكم على نتائجه.

الحلبة الإقليمية

تضررت إسرائيل في الحلبة الدولية من جراء المعطيات الأساسية السلبية، وتخاذل الولايات المتحدة وأوروبا، ومن جراء الأضرار التي أحدثتها الهزة الإقليمية.

وقد شملت هذه تكريس وتمأسس المشروع النووي العسكري الإيراني تحت كنف الاتفاق مع الدول العظمى، وضياع فرصة تحقيق السلام مع الفلسطينيين، والفوضى في سورية، والدعم الروسي لنظام الأسد، وتسلح «حزب الله» المكثف بمنظومات متطورة، وإصرار «حماس» الانتحاري.

وفي الحساب الاستراتيجي العام، ثمة تعويض عن هذه الأمور كلها بتضعضع وتفكك الدولتين الأكثر راديكالية في معاداة إسرائيل –  العراق وسورية – على نحو يزيل عن جدول الأعمال إلى فترة غير قصيرة، تهديداً تقليدياً ذا أبعاد وجودية. أما الخطر النووي الإيراني وبرغم خطورته البالغة، فأمام إسرائيل نحو عقد كامل من الزمن للاستعداد والتحضير بما يتيح إمكان مواجهة هذا التهديد بمعطيات أفضل بكثير. وحتى في حال تبدد الردع حيال «حماس» و»حزب الله»، فسيكون هذان التهديدان قابلين للاحتواء.

ولكن الأهم من هذا كله، بما لا يُقاس، هو التحسن البارز في مكانة إسرائيل الإقليمية والإدراك العميق لدى جميع الجهات المعنية وذات الأهمية مدى قوتها وصدقيتها وإصرارها.

إن التحالف الاستراتيجي مع مصر بقيادة السيسي يعادل في أهميته جميع الوجهات السلبية التي ورد ذكرها. فبالرغم من التوقعات القاتمة بشأن اقتصادها، لا تزال مصر هي الدولة العربية الأكثر أهمية واستقراراً والمركز الوحيد المؤهل لإنشاء قوة إقليمية منظمة ضد الراديكاليين الذين تقودهم إيران. كما أن العلاقات الحميمة مع الأردن، وتقاطع المصالح الواسعة مع العربية السعودية ودول الخليج الأخرى ومع المغرب، تعزز هذه الوجهة.

إن ما تم منعه أو تقليصه أو احتواؤه لا يقل أهمية عما تم إنجازه.

ففي الشمال نجحت إسرائيل في تجنب التدخل في سورية، إلى جانب المحافظة على حدود هادئة في الجولان وتقليص عنيف وحاد وحازم، في نقل الأسلحة الكاسرة للتوازن إلى «حزب الله». وفي الجنوب، أُجهضت محاولة «حماس» جرّ مصر، من خلال تجنيد الرأي العام العربي، إلى مواجهة مع إسرائيل، بل شكلت عملية «الجرف الصامد» نموذجاً جيداً للشراكة الاستراتيجية بين إسرائيل ومصر.

وحتى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لجم أخيراً كراهيته وتهجماته ضد إسرائيل وتجنب المواجهة المباشرة معها بصورة منهجية.

إضاعة الفرصة الإقليمية

إن إضاعة الفرصة الإقليمية من جانب إسرائيل تتعلق بالفلسطينيين.

وليس المقصود هنا بشرى تحقيق السلام أو «حل الدولتين». فليست هناك قيادة فلسطينية معنية بهذا، لا في رام الله ولا في غزة بالتأكيد.

إن أهمية القضية الفلسطينية ليست إقليمية شاملة. فالسلام أو الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين لم يؤثرا على أي مسألة ذات أهمية إقليمية جدية. مثلاً لم يؤثرا على المجازر في سورية، وعلى صمود مصر الاقتصادي، وعلى تسلح إيران النووي، وعلى الانقلاب المضاد في تركيا أو على ضياع الأمل الذي يدفع ملايين العرب إلى الرغبة في مغادرة بلدانهم.

في ظل غياب فرص تحقيق السلام أو الجيرة الحسنة، فإن لهذه القضية أهمية خاصة بالنسبة للدولة اليهودية والديمقراطية بمعنى واحد – الحاجة إلى الانفصال عن الفلسطينيين والتخلص من لعنتهم. لكن هذا لن يكون قابلاً للتحقق من دون إدارة أميركية صادقة ومخلصة، حتى لو كانت في إسرائيل حكومة حازمة وشجاعة تعي هذه الضرورة في العمق. وحتى بعد رحيل باراك أوباما، ثمة شك كبير في ما إذا كانت ستقوم حكومة كهذه، لكن الإمكانية واردة. ثمة ضرورة لإخلاء أحادي الجانب تدريجي للمستوطنات في المنطقة الواقعة وراء الجدار الأمني، مع الإبقاء على حرية عمل الجيش الإسرائيلي في المنطقة بأكملها، إلى حين استبداله في يوم من الأيام بجيش عربي مسؤول وحازم – أردني أو مصري – يقمع «الإرهاب» ويمنع الفلسطينيين من العمل ضد إسرائيل.

عن «يديعوت»

انجرار العالم وراء معارضي أردوغان

بدأ حزب العدالة والتنمية، الذي يسيطر على تركيا، في عملية من شأنها توسيع صلاحيات الرئيس رجب طيب أردوغان والسماح بتمديد حكمه حتى العام 2029. وقد قدم الحزب أمس اقتراحا للبرلمان من اجل تغيير الدستور والغاء منصب رئيس الحكومة، ومنح الرئيس صلاحية تعيين الوزراء في النظام. وبعد المصادقة المتوقعة في البرلمان سيتم نقل التغييرات إلى الاستفتاء الشعبي ـ واذا وافق عليها المواطنون فستصبح سارية المفعول في 2019.

لقد أثبت الجمهور في تركيا في الانتخابات الاخيرة بأنه يميل للوقوف إلى جانب أردوغان ـ هذا رغم الانتقادات الكثيرة التي تم اسماعها ضده في المجتمع الدولي. وحسب رأي من يؤيدون النظام فإن الانتقادات صاخبة إلى درجة أنه لا يمكن سماع صوتها الحقيقي ـ هذا كان ايضا السبب لإقامة صحيفة «ديلي صباح». ومنذ إنشائها قبل عامين قيل إنها «بوق الحكومة» أو «منصة أردوغان». ولكن محرر الصحيفة، ساردار كرغوز، قال لصحيفة «هآرتس»: «لا أحد يفرض علي ما أفعل، وأنا استطيع قول ما أريد. يقولون إن تركيا هي دولة تتدهور نحو الديكتاتورية وتقوم بتقييد حرية التعبير، لكن ذلك غير صحيح. أنا أعمل في هذه الصحيفة واؤيد الحكومة الحالية لأنني اؤمن بذلك كشخص مستقل وحر بشكل كامل». وحسب اقوال كرغوز، فإن كثيرين من الجمهور في تركيا يعتقدون أن انتقاد الحكومة هو الذي يحدد نمط وسائل الإعلام الاجنبية، حتى لو كان ذلك مخالفا لما يريده الشارع في تركيا. «كان هناك صحافيون من وسائل الإعلام الاجنبية جاؤوا إلى هنا في السابق. وعندما رأيت ما قاموا بنشره لاحظت كيف أن أقوالي تم اقتباسها بشكل معين كي تناسب أجندة معينة وضد أردوغان».

«هناك جماعة تستمد منها وسائل الإعلام الاجنبية اغلبية اخبارها، وهي جماعة علمانية يسارية»، قال أنس بيركلي، مدير البحث في معهد ابحاث «ستاه» السياسي. «منذ بداية الثمانينيات نشأت نخبة محافظة أكثر. ورغم هذا التغيير، فإن نظرة وسائل الإعلام الاجنبية ما زالت ملك للنخبة القديمة. وهي تمثل مواقف هذه الجماعة»، أضاف. معهد ستاه يعتبر مؤيدا للحكومة، وهناك من يعتبره «بوق الحكومة».

هذه النخبة الجديدة تشمل آسلي، وهي من عائلة معروفة بتأييدها لحزب العدالة والتنمية وأردوغان. وقد اضطر عماتها للتنازل عن عدة فرص مثل مؤسسة التعليم العالي التي أرادوا التعلم فيها، على ضوء منع النساء من وضع غطاء الرأس في الاماكن العامة، حين تحولت تركيا إلى دولة علمانية في العام 1923. فقد اضطررن إلى الاختيار بين التعليم العالي والدين. وتحت حكم أردوغان تمكنت آسلي من الالتحاق بالمؤسسة للدراسة وهي تصل إلى الجامعة مع غطاء الرأس.

والدها ايضا الذي هو من أصل كردي، يؤيد أردوغان رغم معارضة الاكراد لنظامه. وهذا على خلفية التحسين الاقتصادي الذي يقف أردوغان من ورائه.

«يمكن القول إن 90 في المئة من الذين صوتوا لأردوغان قاموا بذلك لاسباب عملية»، قال بيركلي، «قبل البدء بسيرته السياسية كرئيس لبلدية اسطنبول، كان هناك انقطاع للمياه والكهرباء بشكل يومي، واكوام للقمامة شكلت مصدرا للانفجارات والحرائق.

ومنذ دخوله إلى السياسة نحن نشهد تطورا اقتصاديا لم نشهده من قبل». وحسب اقواله، من بين المصوتين لأردوغان هناك 10 في المئة فقط ممن يؤيدونه لاسباب ايديولوجية.

حسب استطلاعات معهد الابحاث التركي «متروبول» فإن نسبة تأييد أردوغان في 2012 كانت 71 في المئة. وفي انتخابات 2014 تراجعت نسبة التصويت لأردوغان إلى 52 في المئة. وبعد ذلك أظهرت الاستطلاعات أن أقل من 50 في المئة قاموا بتأييده. ومع ذلك، ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في آب الماضي أظهرت استطلاعات مركز الابحاث أن تأييد أردوغان زاد ليصل إلى نسبة 67 في المئة.

«إن أردوغان هو الخيار الأفضل»، قال محمد، الطالب في اسطنبول، «ما هو البديل؟ هناك الحزب الكردي الذي هو حسب رأيي حزب إرهابي كردي. وليس هناك مرشحون معقولون للاحزاب القومية المتطرفة. وهناك احزاب تسجد لايديولوجيا أتاتورك التي لم تعد مناسبة في الوقت الحالي. وهذا الحزب هو حزب غير مستقر. ما بقي إذا هو حزب العدالة والتنمية الذي هو الخيار العملي الافضل. فأفكاره أكثر منطقية وحكمه مستقر ويمكن الاعتماد عليه».

سواء نبع ذلك من اعتبارات ايديولوجية أو عملية، فقد وصل عدد كبير لتأييد أردوغان بعد محاولة الانقلاب، والعدسات الاجنبية تابعت الجموع الغفيرة التي تظاهرت. والعيون الاجنبية قد تعتبر أن هذه عبادة مبالغ فيها للشخص، وهي تذكر بالانظمة الفاشية. «هؤلاء اشخاص يناضلون من اجل مستقبلهم»، قال بيركلي.

رد أردوغان على محاولة الانقلاب الذي أثار الانتقادات في العالم، غير مرفوض بالنسبة لكثيرين من مؤيديه. لقد اتهم أردوغان فتح الله غولن بمحاولة الانقلاب. وبدأ بحملة واسعة ضده وبحملة تطهير ضد «اليزمط»، وهو حزب تابع لغولن. ويعتبر اليزمط في اوساط الاجانب حركة إسلامية معتدلة، هكذا يتم وصفه باللغة الانجليزية. ولكن بالنسبة لكثيرين من الاتراك فإن عدم التدقيق في المميزات المختلف فيها لدى هذا الحزب، هو مثابة انقطاع عن الواقع.

يتم التعامل مع حزب غولن في تركيا على أنه جماعة دينية منغلقة هدفها التغلغل إلى أكبر عدد من المؤسسات للسيطرة على الحكم. وقد عززت اقتباسات من خطابات غولن هذا الموقف، اضافة إلى الافلام الوثائقية ومقالات في صحف مختلفة، الامر الذي أثر على الرأي العام في تركيا.

على مدى السنين كانت العلاقة بين الحزب والحكومة متقلبة، وتحركت بين مكانة غير قانونية وإدانة لغولن، وبين الغاء الادانة في ظل حكم أردوغان، وكانت هناك فترة أصبحت فيها العلاقة مع الحكومة جيدة وفيها تعاون. وكل ذلك تغير في العام 2013 عندما تم الكشف عن قضية الفساد التي شملت المقربين من أردوغان وهددت بتوريطه هو نفسه. أردوغان أعلن أن فضيحة الفساد هذه تمت فبركتها من قبل اشخاص يحسدونه على نجاحه. وقد قصد حركة غولن الذي خدم الكثير من أتباعه في الشرطة. وفي العام 2014 تم الاعلان عن حركة غولن في تركيا على أنها منظمة إرهابية تحاول اسقاط النظام.

في الوقت الذي فوجئت فيه وسائل الإعلام الاجنبية من عملية التطهير الشاملة في الاشهر الاخيرة، واعتبرت ذلك بداية توجه تركيا نحو الديكتاتورية، تنفسوا في تركيا الصعداء. وبالنسبة لكثير من الجمهور، بدأ أردوغان أخيرا في التخلص من السرطان، مثلما قال عن حركة الغولنيين وكما اعتبرها الكثيرين.

حتى الآن تم اعتقال أو طرد 100 ألف شخص من اماكن عملهم، منهم معلمون واكاديميون وقضاة وجنود ورجال شرطة وموظفون في القطاع العام. إن عملية التطهير تهدف، كما قال أردوغان، إلى التخلص من أتباع غولن.

«أنا لا أنفي امكانية وجود اخطاء، وتضرر اشخاص أبرياء»، قال كرغوز، «لكننا نعيش في دولة ديمقراطية. وديمقراطيتنا قوية. والبريء ستتم تبرئته في نهاية المطاف». «أنت تعتقدين أن هذه الاقالات تؤثر على الشخص العادي كما تؤثر على وسائل الإعلام الاجنبية؟ بالتأكيد لا. الشخص البسيط كان مسرورا لأننا نتخلص منهم»، أضاف.

«لقد ذهبت إلى أحد مقرات اليزمط»، قال محمد، «وغادرت المكان بسرعة لأن الاجواء هناك كانت غريبة. أنت تأتي من اجل الحصول على الخدمة، التي كانت جيدة ـ المساعدة في الدروس البيتية، المساعدة في التحضير للجامعة والنوم ايضا لمن يحتاج. ولكنك تشعر بأن الايديولوجيا توجد هناك بشكل معين، حتى لو وصلت من أجل التعلم».

هناك من قام بتخصيص جزء كبير من وقته وعلى مدى سنين من اجل الكشف عن الجوانب المظلمة لحركة غولن واثبات ذلك. ويمكن ايجاد ذلك في الفيلم القصير من الثمانينيات الذي طلب فيه غولن من أتباعه الوصول إلى الاماكن المفصلية من اجل السيطرة على الدولة في الوقت المناسب. وقد قال غولن عن هذا الفيلم وأفلام اخرى، إنه تم اخراج اقواله عن سياقها. حنفي أباجي، ضابط شرطة رئيسي سابق، نشر في العام 2010 كتابا يصف ليس فقط الطرق التي وصل من خلالها رجال غولن إلى قيادة الشرطة، بل كيف اختلقوا فضائح وزوروا شهادات لمن كان يقف في طريقهم من اجل التخلص منه. وايضا من خلال قضاة ومحامين تابعين لهم. وقد أصبح هذا الكتاب من الكتب الاكثر مبيعا. وبعد ذلك تم اتهام أباجي بالعلاقة مع منظمة إرهابية، الامر الذي نفاه. وحكم عليه 15 سنة سجن.

اضافة إلى ذلك، وسائل الإعلام المحلية قالت إن هناك الكثير من قادة الازوتاريين الذين يؤيدون غولن. ولكن إذا كانت نظرية المؤامرة الخاصة بحركة غولن صحيحة، فليس من الواضح إلى أي درجة تورط فيها المؤيدون العاديون. ومن بين اولئك الذين يعتبرون حركة غولن جماعة منغلقة تهدد بالسيطرة، هناك من يعتقدون أن أتباع حركة غولن هم اشخاص بسطاء مع نوايا حسنة، تم تضليلهم وانجروا بشكل أعمى لقائدهم. في هذه الحالة، هل من الصحيح التخلص من 100 ألف شخص، بناء على شهادات مثل: فتح حساب في البنك التابع لغولن؟ أو التعليم في المدرسة التابعة لغولن؟ وإلى أي درجة كانت قوائم التطهير صحيحة؟.

«منظمات حقوق الانسان ترغب في القول إن هذه التطهيرات أضرت بحقوق الانسان»، قال بيركلي، «لكن كانت هذه فرصة للآخرين لاستعادة حقوقهم. الغولنيين تسللوا إلى الجهاز بشكل قوي إلى درجة أضرت بمن هم ليسوا من حركة غولن. لقد كانوا يصلون إلى المؤسسات الرسمية ويحضرون اصدقاءهم. وهناك أماكن لا يمكنك البقاء فيها إذا لم تكن من أتباع غولن».

هآرتس 11/12/2016

انهيار الأحزاب التقليدية في أوروبا

تقف الأحزاب التقليدية يمينية واشتراكية ديموقراطية (يسارية) المتناوبة على الحكم في أوروبا منذ عقود عاجزة أمام خطر ذوبان وتبخر قواعدها الشعبية، وهي ظاهرة بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي، وتسارعت وتائرها خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في سياق تزايد مظاهر الاستياء والغضب والقرف وفقدان الصدقية والثقة بهذه الأحزاب بسبب فشلها المستدام في التصدي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتفشي الفساد في مؤسسات الحكم والتي تتفاقم مع تعمق العولمة وما احدثته من تغيّرات وتأثيرات وارتدادات عاصفة في المجتمعات الأوروبية.
ووفق مجلة «ايكونوميست» فإن «الانتماء إلى حزب سياسي لم يكن ابداً أسهل وأرخص ثمناً مما هو عليه الآن، فقيمة اشتراك العضوية في الحزب الاشتراكي الفرنسي لا تتعدى مبلغ العشرين يورو في العام، ويبلغ الاشتراك السنوي في حزب المحافظين البريطاني 25 جنيهاً فقط، هذا فيما لا تشترط الكثير من الحركات والتنظيمات السياسية الجديدة على منتسبيها دفع اشتراك سنوي مقابل العضوية، فحزب الشاي الأميركي الذي مثل حالة تمرد على الاستابلشمنت في الحزب الجمهوري على سبيل المثال جعل الانضمام له مقتصراً على التسجيل في موقعه على الانترنت. وترى الاستاذة في جامعة لايدن الهولندية انغريد فان بزين «أن العوامل التي ساهمت في صعود دور الأحزاب التقليدية لم يعد لها وجود، واحتمالات بروزها مجدداً تبدو ضعفية للغاية». وتشير نتائج دراسة أعدها معهد دراسات الديموقراطية في صوفيا الى تقلص العضوية في هذه الأحزاب خلال السنوات العشر الأخيرة في ألمانيا بنسبة 20 في المئة، وفي السويد 27 في المئة وفي النرويج 29 في المئة، وفي بريطانيا 36 في المئة». ويتضح من استطلاع أجراه مركز «سيفيبوب» الفرنسي للأبحاث السياسية في «سيانس بو» أن «12 في المئة من الفرنسيين ليست لديهم ثقة بالأحزاب السياسية القائمة»، فيما رأى 67 في المئة ان الديموقراطية في فرنسا تتعثر ولا تتحقق في شكلها الأمثل. إلا أن دراسة أخرى نشرت نتائجها أسبوعية «كابيتال» الصادرة في صوفيا كشفت عن ثبات قوة ودور هذه الأحزاب في النمسا، وزيادة طلبات العضوية في إيطاليا وذلك في شكل يترافق مع ظهور حزب «رابطة الشمال» يتبنى توجهاً عنصرياً معادياً للمهاجرين والأجانب والعولمة.
أما في الولايات المتحدة حيث يتمتع السكان بحرية التعبير عن ميولهم الحزبية عند تسجيل أسمائهم في اللوائح الانتخابية، فلقد لوحظ حصول ارتفاع ملموس في أعداد الناخبين المتهربين عن تسجيل انتماءاتهم الحزبية مفضلين وصف انفسهم بـ «المستقلين» إذ وصلت نسبتهم الى رقم قياسي هو 40 في المئة، بما يمثل برأي الباحث في مركز دراسات الديموقراطية «حالة جديدة غير مألوفة، لأن حصة الناخبين المستقلين تشهد عملياً خلال الانتخابات الرئاسية انخفاضاً». وذكرت «كابيتال» نقلاً عن نتائج استطلاع للرأي أجري في الولايات المتحدة العام 2012» أن نسبة المسجلين كمستقلين في الولايات المتحدة ارتفعت الى 44 في المئة بزيادة قدرها 9 في المئة مقارنة بالفترة ذاتها خلال الحملة الانتخابية العام 2008.
يرى المحلل الفرنسي جان –بابتيست دي مونفالون «أن الأحزاب المهيمنة لم تخسر مكانتها، ولكنها تمسك بمقاليد حياة سياسية عبثية، ما يؤدي الى أزمة مجتمعية، وهو ما تستغله الأحزاب الشعبوية للترويج لفكرة التخلص من كل وسيط بين الشعب والسلطة، داعية الى «نقاش مباشر» مع الشعب».

فردية وحراك عفوي
تعيش المجتمعات الغربية الآن في زمن الفردية والحراك العفوي المتبدل والذي يتجسد في تغير السلوك الاجتماعي والعائلي والانتخابي، في وقت تتمسك وتحافظ الأحزاب التقليدية على نهج يعود الى فترة تشكلها وظهورها في مرحلة الثورة الصناعية التي كانت مجتمعاتها مختلفة عن مجتمعات العولمة الحالية جذرياً. ويقول استاذ العلوم الاجتماعية في جامعة بولونيا بييرو إيغناتسي: «لم يبقَ من هذا الزمن الآفل، حين كان الحزب يمثل رحم الهوية والثقافة السياسية غير صور متقادمة وباهتة الألوان» إذ «تلح المجتمعات ما بعد الصناعية على أن يقوم كل شخص بإعلان ميزاته وتفوقه العلمي أو المهني وغيره». وخلصت دراسة أعدتها مؤسسة جان – جوريس قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة الى «أن أكثر من ثلثي الناخبين (في عينة الدراسة) عدلوا عن انتخاب مرشح من المرشحين قبل ستة أشهر من الانتخابات». ويرى مدير مركز الدراسات الدولية والبلقانية، واستاذ العلوم السياسة في جامعة صوفيا البروفسور اوغنيان منتشيف ان «انهيار الأحزاب التقيلدية في أوروبا يرتبط بمجموعة من العوامل تبلورت خلال العقود الأخيرة، أولها: تقدم العولمة تحت هيمنة سياسة السوق النيوليبرالية، بحيث أن السياسة الاقتصادية لم تعد تمثل سباقاً بين اليمين واليسار، بل صفقات او توافقات بين جميع الأحزاب السياسية بغض النظر عن توجهاتها الايديولوجية تتماشى مع منطق وآليات السوق المعولم، وبهذا فإن هذه الأحزاب أصبحت في عيون الناخبين متشابهة، بل وحتى متواطئة في ما بينها ضده ومتنكرة عملياً لما تتبناه وتروج له من برامج اقتصادية واجتماعية. وثانياً: ان كل الأحزاب في أوروبا أخضعت اختلافاتها الايديولوجية لمبادئ ومفاهيم ما بعد الحداثة الليبرالية التي تتأسس على مفهوم التعددية الثقافية، والمحاباة السياسية، وعلى رغم أن هذا يعبر عن حالة متطورة في الإنسانية في الغرب من احترام وصيانة الحقوق والكرامة الانسانية، لكنه برأي أفراد وفئات وهيئات دينية أخذ يتعدى الحدود المقبولة اخلاقياً ودينياً، إضافة الى أن الأعداد الكبيرة من اللاجئين والمهاجرين الذين لاذوا بأوروبا يرفضون الاندماج في مجتمعاتها واحترام قيمها وثقافة المجتمعات الغربية التي وفرت لهم الحماية وحقوق المواطنة والكرامة الانسانية التي حرمتهم منها حكومات بلدانهم. ثالثاً: موافقة الأحزاب الأوروبية ضمنياً على أن يكون التمثيل الديموقراطي على المستوى الوطني في المؤسسات الأوروبية مقتصراً على البرلمان الأوروبي المنتخب، فيما الحكومات الوطنية هي التي تختار وتنتدب ممثليها الى المفوضية الأوروبية التي تمثل الحكومة الأوروبية التي مقرها بروكسيل وهي التي تتخذ القرارات التي يجب أن تلتزم بها الحكومات الوطنية في الدول الأعضاء، ما يعني عملياً أن النخب السياسية الوطنية تعقد الاتفاقات في ما بينها من دون مشاركة المواطنين وتتخذ قرارت تكون في كثير من الأحيان متناقضة مع رغباتهم».

استبداد الزعماء
تنبهت هذه الأحزاب الى التحديات والأخطار التي تواجهها وسارعت الى إنشاء مراكز بحوث فكرية وسياسية وجيـــوسيـــاسيـة واستـــراتيــجــيــة تتولى مهمة البحث في أوضاعها التنظيمية ومنظومات أفكارها وأنظمتها الداخلية وبرامجها العامة في محاولة لاكتشاف الاختلافات والفروق بين الأحزاب الجديدة الناهضة. إلا أن الشيء الذي لم تدركه قيادات هذه الأحزاب ويعد معضلتها الأساسية برأي غالبية المحللين هو عدم قدرتها على التكيف مع عالم مجتمع الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي، وإخفاقها في التقاط وفهم آليات التشظي الحاصل في المجتمعات الغربية وغلبة الفردية في السلوك بفعل العولمة التي تسببت في حدوث قطيعة مع الأواصر التقليدية التي كانت برأي مدير مركز الأبحاث التاريخية في سيانس بو، مارك لازار» تجمع الأفراد تحت رايات الديانة او الطبقات الاجتماعية او الحرف المهنية». ويقول: «أن الأحزاب تمثل الجماعة وهذه تناثرت وتفرقت، ذلك أن النموذج القديم المألوف المتمثل في العائلة، البيت، وتوريث المهنة من الأب الى الابن والحفيد كان يتطابق مع الأشكال السياسية المتناغمة مع مجموعات متجانسة من الناحية الاجتماعية قد انتهى عملياً». وينبه دارس الاجتماعيات الايطالي الألماني الأصل روبرت ميشلز الى مسألة في غاية الأهمية وهي «ميل الأحزاب الى مصادرة السلطة» محذراً مما سماه «تنامي النزعات في الأنظمة الديموقراطية الى الاوليغارشية ما يجعل الناخبين يخشون من احتمال أن تغدر الأحزاب بهم وتكف عن تمثيلهم في الحكم وتذهب لعقد صفقات على حسابهم لتحقيق مأربها ومصالحها، والإساءة الى الأمانة».

النيوميديا وأمزجة الناخبين
تراكمت لدى الفئات المجتمعية المتعددة خلال العقود الأخيرة هواجس ومخاوف انتقلت مع ظهور النيوميديا وانفلات السيطرة والتحكم في أمزجة الرأي العام عبر وسائل الإعلام التقليدية التي تمولها وتوجهها الأحزاب بدعم من الاوليغارشية التي تعد من الناحية العملية الحاكم الفعلي من وراء الكواليس الذي يغذي انحرافات السياسيين وينشر الفساد بين المسؤولين في الدولة والسلطة والمؤسسة القضائية ويزيد من تحديهم لسلطة وسيادة القانون، هذا كله أدى الى فيضان الغضب الشعبي الذي وجد في وسائل التواصل الاجتماعي سلاحه الوحيد وهو الأعزل في مواجهة الحكام والساسة الفاسدين.
يقول البروفسور روسيل دالتون من (University of California,Irvine ) أن «السياسيين قبل 40 سنة كان بوسعهم الاعتماد على وسائل الاعلام الكلاسيكية، وهذا لم يعد ممكناً مع ظهور الإنترنت وما يوفره من امكانات امام كل سياسي مغمور او اي شخص يرغب في خوض المعترك السياسي ويجد الكثير من الناخبين انه المفضل للتعبير عما ينتابهم من مشاعر وهموم ومطالب مقارنة بالسياسين من الأحزاب التقليدية».
شهدت الأحزاب السياسية في أوروبا تحولات أساسية وهيكيلة جذرية على صعيدي التأسيس والأفكار، حيث برز نموذج الحزب الشعبي بعد الحرب العالمية الثانية ليمثل ويضم في صفوفه شبكة واسعة من الفئات الاجتماعية في الدول الغربية، وهذا حصل تحت تأثير التبدلات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة بقوة اقتصاد المعلومات (information economy) والعولمة. ويشير الباحث فلاديمير شوبوف من (Bulgarian Institute of International Affaris ) الى «ان غياب الاجماع اوالتوافق حول الحد الأدنى من القرارات السياسية المصيرية في ما يخص الملكية المختلطة للاقتصاد ومعايير الرفاه الاجتماعي والوحدة الأوروبية يعد من بين العوامل التي ساهمت في أزمة الأحزاب التقليدية، فضلاً عن أن السنوات العشر الأخيرة شهدت عمليات سياسية متواصلة أسفرت عن بروز مؤشرات محسوسة تدل على ميل المجتمعات الى الولاءات القومية الضيقة كما شاهدنا في تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي وتصويت الأميركيين الى الشعبوي ترامب، وهزيمة ائتلاف مركل أمام حزب «البديل من أجل ألمانيا» الشعبوي الذي لم يتعدَ عمره ثلاثة اعوام، وذلك في انتخابات بعض الأقاليم التي أجريت قبل أشهر معدودة، وقبل ذلك ظهور حركات مماثلة في بولندا وهنغاريا وفرنسا وبلغاريا وغيرها. ويضيف: «من سمات تلك الدلائل على سبيل المثال الارتداد الى حالة التشوش الاقتصادي التي سببتها العولمة وتسونامي المهاجرين واللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا ومن بعض دول أوروبا الشرقية والبلقان التي تعاني هي الأخرى الفشل بعد أكثر من عقدين على سقوط الأنظمة الشيوعية، كذلك جرائم داعش الإرهابية».د

المصدر