في ندوة عُقدت بغزة .. العلاقات الدولية يعرض دراسة أكاديمية تناقش “مفهوم الدولة في فكر حركة حماس”

عقد مجلس العلاقات الدولية – فلسطين ندوة لعرض دراسة أكاديمية بعنوان “مفهوم الدولة في فكر حركة حماس” قدمها الدكتور حسام الدجني.

وبدأت الندوة بترحيب من رئيس المجلس د. باسم نعيم بالحضور، وأيضا بالتهنئة للدكتور حسام الدجني على نيله درجة الدكتوراه.

وفي حديثه أمام الحضور أكد د. الدجني بأن بحثه يهدف إلى التعرف على مفهوم وتطور الدولة في فكر حركة حماس، ويهدف أيضاً لإثبات أو نفي فرضية الدراسة وهي: هل مفهوم الدولة الديمقراطية الإجرائية هو مفهوم الدولة في فكر حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وليس مفهوم الدولة المدنية كما جاء بالفكر السياسي الغربي ؟

وأشار د. الدجني بأن هناك تطور واقتراب في مفهوم الدولة بالفكر السياسي لحركة حماس مع مفهوم الدولة المدنية في الفكر السياسي الغربي. إلا أن التبني الشامل للدولة المدنية في الفكر الغربي بالنسبة لحركة حماس ما زال بعيداً. وأن هناك شبه إجماع لدى حركة حماس على تبنى الديمقراطية الإجرائية.

وحضر اللقاء ثلّة من المفكرين والناشطين والباحثين والإعلاميين الذين تجاوبوا مع موضوع الندوة الذي أثار الكثير من الأسئلة والاستفسارات لديهم.

 وأوصى الدكتور الدجني في دراسته حركة حماس إلى أن تتجه بفكرها إلى مزيد من تبني فكر الدولة المدنية بشكل لا يتعارض مع القوانين الدولية لحقوق الإنسان، وأن تستفيد من تجربة ولادة الدولة المدنية الحديثة في أوروبا، والمخاض العسير التي ولدت من رحمه.

واستكمل الباحث توصياته بضرورة فتح باب الاجتهاد لدى الإسلاميين من أجل بناء نموذج لدولة مدنية تستفيد من الإسلام كمنهج حياة، موصيا حركة حماس بأن تولي اهتماماً أكبر في أدبياتها لبناء فكر سياسي متعلق بالدولة، وصياغة مفهوم للدولة مستفيدة من التجارب السابقة في تاريخنا المعاصر، وينبغي أن يراعي المفهوم خصوصية المجتمع الفلسطيني، وفي نفس الوقت تنوعه الفكري والإثني.

وفي توصياته للإسلاميين، دعاهم د. الدجني عموماً بضرورة الاستفادة من تجربة حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في تركيا بفصل الدعوي عن السياسي عند إدارة الدولة وأن يستدركوا بأن الدولة المدنية هي دولة لا دينية، لا تعادي الدين ولا تعمل به، وأحد مقوماتها هي العلمانية، وبذلك فإنهم يخطئون في استخدام المصطلح بما يحاكي النموذج الغربي.

وفي ختام توصياته أوصى د. الدجني حركة حماس بضرورة صياغة وثيقة سياسة مفسرة لميثاقها الذي كتب في العام 1988م، وتكون تلك الوثيقة قادرة على وضع إجابات ورؤى تنسجم وطبيعة المرحلة، وعلى وجه الخصوص تحديد مفهوم الدولة الذي تؤمن به حركة حماس بشكل واضح  وصريح، وكذلك موقفها من تولي المرأة المناصب العامة، القانون الدولي، حرية الدين والحريات العامة وغيرها من مسؤوليات الدولة ومن يسيطر عليها.

img_1874 img_1882 img_1925 img_1928 img_1942 img_1951 img_1976 img_1995 img_2003 img_2012 img_2017

ديفيد فريدمان في مهمة مقدسة: تعزيز الاحتلال الاسرائيلي!

يقوم ديفيد فريدمان، الذي عين مؤخرا سفيرا للولايات المتحدة في إسرائيل، بمهمة نضالية.

قبل أسبوعين من الانتخابات، كتب مقالا في صحيفة “جيروزاليم بوست”، كشف فيها عن حماسته التي لا تلين، إذ قال: “كيهود أمريكيين تعدادنا يقترب من ستة ملايين نسمة.. حصلنا على فرصة ما كان أسلافنا ليحلموا بها، بدلا من أن نضطر إلى مواجهة التحديات التي يفرضها أعداء إجراميون، حملنا أمانة إرث أعظم الأجيال التي سبقتنا، لضمان بقاء إسرائيل على قيد الحياة، واستمرارها في الازدهار، كضوء يشع على الأمم وكوطن دائم للشعب اليهودي”.

حملة فريدمان النضالية تستهدف تحقيق ثلاثة أمور: تعزيز مشروع إسرائيل الاستعماري، وتقويض الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، والحط من قدر الليبراليين، خاصة اليهود منهم.

تم الكشف عن الهدفين الأولين في خطة العمل التي تتكون من ستة عشر نقطة، التي أعدها فريدمان نفسه بالتعاون مع جيسون دوف غرينبلات في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

الاستعمار الإسرائيلي

في البداية، تعلن الخطة أن “الولايات المتحدة ستعترف بالقدس عاصمة أبدية للدولة اليهودية غير قابلة للتقسيم، وأن إدارة السيد ترامب ستبادر إلى نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس”.

في الوقت ذاته، سيعتبر حل الدولتين حلا ميتا، ليس بسبب الواقع الجغرافي الذي أوجده استيلاء ما يزيد عن نصف مليون مستوطن يهودي على الأراضي الفلسطينية، وإنما بسبب أن “الفلسطينيين ليسوا على استعداد للتخلي عن العنف ضد إسرائيل أو الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية”.

والمشكلة من وجهة نظر فريدمان تكمن في أن الحزبين السياسيين الفلسطينيين الكبيرين “يروجان بانتظام لمناهضة السامية وللجهاد”. مثل هذه التفسيرات تتجاهل، كما هو واضح، العنف اليومي الذي يمارس ضد الفلسطينيين بينما يعطي الضوء الأخضر لمن يستولون على أراضيهم كل يوم.

إلا أن الخطة المكونة من ستة عشر نقطة، تصر أيضا على أنه حتى يتسنى لإسرائيل الاستمرار في مشروعها الاستعماري دونما إعاقة، فإن من الأهمية بمكان تقويض المؤسسات الدولية التي حاولت قطع الطريق على سياسات إسرائيل المنتهكة للحقوق.

وبناء عليه يقترح فريدمان، أنه “ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية وقف التمويل المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة”، وأنه “ينبغي عليها أيضا استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي مشروع قرار يقدم للأمم المتحدة مستهدفا إسرائيل بشكل منفرد ومناف الإنصاف”، والعمل مع الاتحاد الأوروبي في سبيل معارضة “أي تصنيف خاص للمنتجات الإسرائيلية أو أي مقاطعة للبضائع الإسرائيلية”.

ويضيف المقترح إنه “يتوجب على الولايات المتحدة الأمريكية فعلا اعتبار الجهود المبذولة لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (بي دي إس) نشاطا مناهضا للسامية، واتخاذ إجراءات قوية، على المستوى الدبلوماسي والتشريعي، لإحباط أي إجراءات يقصد منها الحد من العلاقات التجارية مع إسرائيل”.

بينما تتردد عبارة مناهضة السامية في قاموس السفير الجديد، وتستخدم سلاحا سياسيا لتجنب أي انتقاد يوجه إلى إسرائيل، فإن من الأهمية إدراك أن فريدمان ليس مجرد خطيب ناري مفوه، وإنما مخطط استراتيجي ألمعي.

وبالفعل، لم ينتظر حتى يتسلم مهام منصبه الجديد ليمارس نشاطه في مساعدة المستوطنين اليهود الذين يؤمنون بالمخلص. بل من أجل المساعدة في تخليص أرض إسرائيل التي “عاش فيها الشعب اليهودي لما يقرب من 3500 سنة،” انضم فريدمان إلى مجموعة أصدقاء بيت إيل الأمريكيين، وهي منظمة غير حكومية تجمع التبرعات لصالح المستوطنات في الضفة الغربية.

وكرئيس للمنظمة، نجح في الحصول على تبرع مالي من الجمعية الخيرية التابعة لعائلة جاريد كوشنر، زوج ابنة ترامب، معززا بذلك الصلة بين الإدارة القادمة والمستوطنات الإسرائيلية غير المشروعة.

تقويض الاتفاق النووي مع إيران

هدفه الثاني كسفير لأمريكا في إسرائيل سيكون مساعدة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تقويض الاتفاق النووي الذي أبرم مع إيران في عام 2015. سيرا على خطى نتنياهو، يصف فريدمان إيران في الوثيقة التي حررها بأنها “الدولة الرائدة في رعاية الإرهاب – وبذلك تضع الشرق الأوسط بشكل خاص، والعالم ككل بشكل عام في خطر من خلال تمويل وتسليح وتدريب الجماعات الإرهابية التي تنشط حول العالم”.

ويخلص فريدمان إلى أن ذلك يعدّ انتهاكا لخطة العمل الشاملة المشتركة التي وقعت مع إيران ويبرر تطبيق “عقوبات جديدة وشديدة”.

إضافة إلى التراجع عن الصفقة مع إيران، يوصي فريدمان أن تقوم إدارة ترامب بتقوية “الرابطة غير القابلة للانفصام بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل” من خلال ضمان أن تتلقى إسرائيل “أقصى درجات التعاون العسكري الاستراتيجي والتكتيكي من الولايات المتحدة الأمريكية”.

وبالتالي يوصي بإلغاء البند في مذكرة التفاهم التي وقعت مؤخرا من قبل إدارة أوباما والحكومة الإسرائيلية، والذي يقيد الكونغرس الأمريكي ولا يسمح له بمنح إسرائيلي دعماً مالياً يتجاوز 8ر3 مليار دولار وعدت الإدارة بتقديمها سنويا على مدى السنوات العشر القادمة.

نزع الشرعية عن اليهود الليبراليين

وأخيرا، يتمثل هدف فريدمان الثالث في نزع الشرعية عن الليبراليين، أو عن أي شخص تسول له نفسه الوقوف في طريق حملته النضالية. تجلى هذا الهدف بأوضح ما يمكن في اللغة التي يستخدمها للنيل من أولئك الذين يختلفون مع أجندته السياسية.

وكان فريدمان قد وصف صحيفتي نيويورك تايمز والواشنطن بوست بأنهما طابور خامس، ووصم الرئيس باراك أوباما بأنه معاد للسامية، وأما اليهود الناشطون في جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل جيه ستريت فاعتبرهم “أسوأ من “كابوس”، أي اليهود الذين كانوا يبلغون عن أبناء ملتهم من اليهود ويتسببون في إرسالهم إلى معسكرات الإبادة النازية”.

يمكن للمرء أن يتساءل: ولماذا يعتبرون أسوء من “كابوس” يا ترى؟

يقول فريدمان شارحا ذلك: “كان اليهود من فئة كابوس يواجهون معاملة وحشية فوق التصور، ومن يدري ماذا كان يمكن لأي منا أن يفعله في تلك الظروف من أجل أن ينقذ شخصاً عزيزاً عليه؟ أما جي ستريت؟ فليسوا سوى دعاة تدمير إسرائيل في ملابس أنيقة يوجهون رسائلهم من مقاعدهم الوثيرة والمريحة في أجواء أمريكا الآمنة – يصعب على المرء أن يتصور من هو أسوأ منهم”.

ما يبعث على الرعب في حالة فريدمان -كما هو حال عدد غير قليل ممن وقع عليهم اختيار ترامب- هو أنه يرى نفسه في مهمة مقدسة. ولذلك فإن كل من يختلف معه في هدفيه الأولين فإنه يوصم بأنه مرتد، فإما أن يكون معاد للسامية أو جهاديا، أو مدافعا عن هذا أو عن ذاك، ملتمسا لهما الأعذار.

كواحد من الذين شهدوا ما جلبه التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط منذ فجر الألفية الجديدة، فإنني أرى أن تعيين فريدمان ليس مرعباً جداً فحسب، بل وينذر -كما كان حال الصليبيين القدماء- بمستقبل ملطخ بالدماء.

(عن صحيفة “ميدل إيست آي”، مترجم خصيصا لـ”عربي21”)

أسرار العلاقة الخفية: هكذا صنع الرئيس السوري بيديه تنظيم “داعش” المتشدد

هذا هو الفصل الأخير من التحقيقٍ الرائد الذي أجراه المراسل الحائز على جائزة “بوليتزر” للصحافة روي غوتمان، الذي يوثّق مساهمات بشار الأسد في صنع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

يوضح التقرير تواطؤ الديكتاتور السوري في الرعب الذي نشره التنظيم في سوريا، وذلك أثناء تخطيطه وإلهامه لإرهابيين آخرين لتنفيذ هجمات في أوروبا والولايات المتحدة. وهي حقائق يجب على الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وضعها قيد الاعتبار عندما يتحدث بعفوية عن التعاون مع روسيا والأسد في الحرب ضد داعش. وفقاً لتقرير نشرته صحيفة “ديلي بيست”.

وكما رأينا في الفصلين السابقين، حاول الأسد في البداية تملّق رؤساء الدول الغربية بتصوير الانتفاضة الشعبية ضده في 2011 باعتبارها ثورة يقودها الإرهابيون. وعندما فشل ذلك، أطلق الأسد سراح بعض المتطرفين الإسلاميين الذين حاربوا القوات الأميركية في العراق سابقاً من السجون، ثم نظّم هجمات وهمية على بعض المؤسسات الحكومية، واتهم الإرهابيين بتنفيذها.

وفي استراتيجيةٍ أبعد ما تكون عن مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، تجاهل الأسد إقامة التنظيم لدولةٍ داخل دولته، متخذاً الرقة عاصمةً لها، وترك مهمة مواجهة المتطرفين الإرهابيين للولايات المتحدة والأطراف الأخرى.

نص التقرير

في ربيع عام 2012، عبرت مئات من عناصر الميليشيات الإسلامية الحدود من العراق إلى شرق سوريا تحت أعين الجهاز الأمني المشدّد لنظام الأسد. وعند وصولهم، تلقت أجهزة المخابرات السورية مجموعتين من التعليمات.

كانت إحدى هاتين المجموعتين تعليمات مكتوبة، وتضمّنت أسماء ومعلومات عن الجهاديين، مرفق معها تعليمات تأمر باعتقالهم وقتلهم.

لكن هذا لم يكن إلا تمويهاً. وبينما وزّع النظام مجموعةً من التعليمات يأمر فيها بقتل هؤلاء الجهاديين، أرسل النظام سراً مبعوثين رسميين برسالة مغايرة.

قال محمود النصر، وهو مسؤول سابق بالمخابرات شمال سوريا انشقّ في أكتوبر/تشرين الأول عام 2012، إنَّ هؤلاء المبعوثين “أتوا من مقر القيادة، وعقدوا اجتماعات خاصة بجهاز المخابرات، وأمرونا بالابتعاد عنهم وعدم لمسهم”.

وقال النصر إنَّ الجهاديين قدموا إلى سوريا في مجموعاتٍ من 3 أشخاص، وأحياناً 5، ثم أصبحوا مئات. وأضاف قائلاً: “وصلوا إلى سوريا ثم بدأ كل منهم بإحضار أصدقائه”. انضم أغلب هؤلاء الجهاديين إلى جبهة النصرة، وهي جماعة أعلنت انتماءها للقاعدة في أبريل/نيسان عام 2013، وانقسمت بعدها إلى مجموعتين، جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). بينما انضم بعض الجهاديين المتسللين إلى سوريا لتنظيم أحرار الشام، وهي جماعة إسلامية ثالثة أكثر اعتدالاً.

تسلّط هذه التعليمات المتناقضة الضوء على العلاقة الخفيّة بين نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). إذ يزعم الأسد أن المعارضة السياسية المحلية ضده تتكون بأكملها من الإرهابيين العازمين على تدمير الدولة السورية، ويناشد بانتظام المجتمع الدولي طالباً المساعدة في حربه ضد الإرهاب. لكن النظام السوري في الحقيقة سهّل صعود وتوسّع الجماعة الإرهابية الحقيقية في سوريا: تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

لكن هذا التحقيق الذي استمر عامين يكشف صورةً أكثر تعقيداً، إذ يبدو أن نظام الأسد قد نفَّذ عملياتٍ بالتعاون مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بينما حاربه في مراتٍ أخرى، ما كبَّده خسائر فادحة.

وقال مسعود بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، في مقابلةٍ حديثة مع صحيفة “ديلي بيست” الأميركية إنَّه “أحياناً هم حلفاء، وفي أوقاتٍ أخرى هم أعداء. أحياناً يتعاونون معاً، وأحياناً يقاتلون بعضهم البعض. إذاً ما هو النمط المتّبع؟ الله وحده يعلم”.

علاقة طويلة المدى

ما أصبح واضحاً هو أن علاقةً طويلة المدى تربط بين نظام الأسد والدولة الإسلامية، يعود تاريخها لحرب العراق، عندما ساعدت سوريا آلاف المتطوعين على دخول العراق عبر حدودها لمحاربة الاحتلال الأميركي. سجن النظام السوري أكثر من 1000 جهاديّ عقب عودتهم من العراق، لتطلق سراحهم مرة أخرى عام 2011 أثناء قيام السوريين بثورة ضد النظام، كثير من هؤلاء أصبحوا اليوم قادة في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

كانت الخطة العامة هي تسهيل تحركات الجهاديين، مع الحفاظ على قدرٍ كافٍ من الاشتباكات تسمح للنظام بادعاء محاربته لهم.

وعقب وصولهم عام 2012، أدار النظام وجهه عن استيلاء المتطرفين على قواعد حكومية. كما سمح لقوافل الجهاديين بالعبور ذهاباً وإياباً بين سوريا والعراق، ولم يحرّك ساكناً لمنع التنظيم من إرسال أسلحة إلى العراق، وهو ما ساعد التنظيم بالعراق في الاستيلاء على الموصل في يونيو/حزيران عام 2014.

والآن، يقصف النظام السوري قرى خاضعة لحكم التنظيم ببراميل متفجّرة، لكنها تستهدف المدنيين عادةً. بينما يسود الهدوء على خط الجبهة بين الطرفين.

وقالت كارين فون هيبل، وهي مسؤولة سابقة بوزارة الخارجية الأميركية كانت تعمل على القضية السورية لست سنوات حتى نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، إنَّه “عموماً، كان النظام السوري يتجاهل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)”.

وأضافت: “ستجد صعوبةً في إيجاد حوادث لهجوم النظام على التنظيم، والهجمات المتفرقة التي نفّذها النظام استهدفت المدنيين أكثر من مقاتلي التنظيم”.

وكانت فان هيبل، التي تدير الآن المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث يقع بمدينة لندن، تستخدم اسماً بديلاً لتنظيم الدولة الإسلامية، إذ كانت تسميه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (ISIL) بدلاً من الاسم الشائع الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (ISIS).

وذهب وزير الخارجية الأميركي جون كيري لمدى أبعد، عندما قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 إنَّ الرئيس السوري بشار الأسد، الذي أطلق سراح 1500 سجين من الجهاديين، هو من أوجد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ومعه رئيس الوزراء العراقي السابق نور المالكي، الذي أطلق سراح 1000 آخرين.

وقال كيري عقب هجمات باريس الإرهابية إنَّ الأسد أراد بهذا أن يقول “إما أنا أو الإرهابيين”.

وفي مارس/آذار، وجّه النظام السوري اهتمامه تجاه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتمكن بمساعدة القصف الجوي الروسي الذي استمر أسابيع، والمساعدة الوفيرة التي قدمتها ميليشيات حزب الله اللبنانية، من استعادة السيطرة على مدينة تدمر.

ومع ذلك، هناك العديد من الأمثلة على حوادثٍ سهّل فيها النظام استيلاء المتطرفين على مناطق خاضعة لسيطرة قوات الثوار. ولعب مسؤولون بحكومة العراق، التي يسيطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحلفاؤه السنيون على ما يقترب من ثلث مساحتها، دوراً أساسياً لصالح الأسد في صعود التنظيم بسوريا.

قال سعيد الجياشي، الذي كان آنذاك عضواً في جهاز الأمن الوطني العراقي، إنَّ الأسد “ساعد في إنشاء الطريق الذي استخدمه الإرهابيون من كل أنحاء العالم للقدوم عبر سوريا لمحاربة الأميركيين في العراق”. وكان الجياشي يشير إلى فترةٍ ترجع لعشرة أعوام، توافد فيها متطوعون جهاديون أجانب على العراق لقتال القوات الأميركية. وأضاف قائلاً “لاحقاً استُخدمت نفس الطرق لجلب الإرهابيين إلى سوريا”.

وأكد: “أومن شخصياً بأن هناك مستوى من التنسيق بين الطرفين”، ومع ذلك اعترف بأنه لا يعرف كيف نُفذ ذلك المخطط.

الخطوة الأولى في الصعود

كانت الخطوة الأولى في صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، عندما أرسل أبوبكر البغدادي، الذي كان قائد تنظيم القاعدة في العراق آنذاك، محمد الجولاني، أحد قادة الميليشيات، إلى سوريا لتشكيل جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا.

ثم في ربيع عام 2012، بدأ وصول الجهاديين إلى سوريا، وقال نبيل دينال، وهو سوري من شرق سوريا انشق عن الحكومة في يونيو/حزيران عام 2012، إنَّ النظام “علم بوصول الجهاديين، وعلم بتواجدهم في المناطق الريفية، وأنهم يتحركون عبر القرى، لكنه لم يستهدفهم”.

وقال النصر، مسؤول المخابرات السابق من شمال شرق سوريا، إنَّه “في بعض الحالات، كنّا نقدّم اسماً لأحد رؤسائنا في القيادة، ونقول إنَّ هذا الشخص موجود داخل مناطقنا. لكنني لم أكن أتلقى أية أوامر من القيادة لمراقبته. ولم يكن النظام يوفر أية معلومات أكثر عن هذا الشخص”.

تعرّف زعماء القبائل في المناطق الحدودية على المقاتلين العائدين إلى سوريا، بحسب سلمان شيخ، المدير السابق لمركز أبحاث بروكينغز في قطر، الذي اجتمع مع شخصيات سورية بارزة بانتظام لرسم صورة واضحة لمستقبل البلاد. وقال: “كانوا قد رأوا هؤلاء الأشخاص يعبرون خارج الحدود بين عامي 2003 و2005، والآن رأوهم بأم أعينهم مرة أخرى، ورأوا أنهم لم يعودوا فحسب، بل قوبلت عودتهم بشيءٍ من الترحاب. ولم يتصدى لهم أحدٌ من الحكومة”.

وفي أواخر عام 2012، عندما صنّفت الولايات المتحدة جبهة النصرة كمنظمة إرهابية، كانت قد تحوّلت إلى قوة مقاتلة فعّالة ضد النظام.

وأعلن البغدادي تشكيل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أبريل/نيسان عام 2013، لكن الجولاني، الذي تمتع بدعمٍ شعبي محلي نتيجة معارضته للنظام، رفض وقف نشاط جبهة النصرة. ووُلدت عداوة مريرة بين الجماعتين.

وبعد وقتٍ قليل، بدأ البغدادي بإحكام سلطته على شرق وشمال سوريا. وفي مايو/أيار من نفس العام، استولى على الرقة من سيطرة قوات جبهة النصرة، وبدأ بالاستيلاء على مدن شمال سوريا من الثوار المعتدلين المدعومين من قبل أميركا. توسّع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) سريعاً بفتح أبوابه أمام المتطوعين من الجماعات الإسلامية أقل تطرفاً، والمتطوعين من خارج البلاد، وذلك لتعزيز أعداد قواته.

دولة داخل الدولة

مر التنظيم بمواجهات قليلة، إن وُجدَت، مع الجيش السوري، الذي استمر بإدارة قاعدة عسكرية كبرى خارج الرقة. حتى بعد أن رفع التنظيم أعلاماً سوداء ضخمة على مقار حكومية سورية، وجعل الرقة عاصمة لدولته الإسلامية المزعومة، وأعلن سيادته على المنطقة، لم تستهدف طائرة سورية واحدة أياً من تلك المواقع.

ومن داخل مقره في الرقة، أدار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) نفسه كدولة داخل دولة. قدّمت لمواطنيها أكثر نسخ القانون تطرفاً، ونفّذت مجموعة من الإعدامات العلنية، واضطهدت السكان المسيحيين حتى فرّوا منها. وفي تطوّرٍ مشؤوم أرسل التنظيم أسلحة ومقاتلين ومؤونة لقواته في مناطق أخرى في سوريا، ومن وإلى العراق، بينما وقف الجيش السوري مراقباً فحسب لما يجري.

وبينما استمر التنظيم في إحكام سيطرته على شمال سوريا، أعلن شنّ هجوم عسكري ضد الثوار المدعومين من قبل الغرب، الذي سماه باسم عملية “نفي الخبث”. واستولى التنظيم على المعبر الحدودي الرئيسي الذي اعتمد عليه الثوار للحصول على إمدادات الغرب والخليج من الأسلحة والمعدات، وهاجم قواعد ونقاط تفتيش الثوار، واختطف مراسلين سوريين وأجانب ليطلق سراحهم مقابل فدية. واغتال التنظيم أيضاً بعض القيادات بقوات الثوار، واختطف آخرين، ثم قدّمهم للمحاكمة وأعدمهم علنياً.

استسلام وانسحاب الجيش السوري

عندما انضم أبو خليل، حارس الأمن السابق بجامعة حلب، والذي كان يبلغ حينها من العمر 26 عاماً، إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أواخر ربيع 2013، كان يأمل أن تكون أسلحة التنظيم، وأمواله، وقوته العددية قد جعلته خصماً أقوى لحكومة الرئيس بشار الأسد من أحرار الشام، وهي الجماعة الإسلامية السورية التي كان ينتمي إليها سابقًا.

قضى أبو خليل شهراً واحداً من التدريب الأساسي بالتنظيم، وكان يرتدى حزاماً ناسفاً محمّلاً بمادة “تي إن تي” المتفجرة عندما شارك في معارك الاستيلاء على قواعد الحكومة السورية العسكرية. لكنه رفض مبايعة الأمير المحلي للتنظيم وأبو بكر البغدادي، وتقديم ولائه الأبدي لهما.

وأضاف أبو خليل، المقاتل السابق في سوريا، والذي طلب أن يُعرَّف بلقب “أبو خليل” بغرض الحماية، “بقيت معهم لمدة 6 أشهر، لكني لم أفهم شيئاً عنهم. لم أفهم أهدافهم ومطالبهم السياسية. وبالنسبة للبغدادي، لم أكن أعرفه، إذاً كيف أبايعه؟”.

حيّرت أبو خليل، الذي أجريت معه المقابلة في ديسمبر/كانون الأول عام 2014 في شقة صديق بمدينة الريحانية جنوبي تركيا، السهولة التي استولت بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على القواعد العسكرية. قال: “أحياناً كنت أشعر بأن الجيش السوري كان يستسلم وينسحب بلا قتال. هل كانوا خائفين من القاعدة لأن مقاتلي القاعدة يرتدون أحزمة ناسفة؟ أم كان هناك تعاون بينها وبين النظام؟ لم أجد إجابة لسؤالي. ويظل هو السؤال الأهم حتى الآن”.

كان ثلثا مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أجنبيين، طبقاً لكلام أبي خليل، الذي قال إنَّه كان تحت قيادة أمير تونسي مع مقاتلين من الشيشان، وإسبانيا، وألمانيا، وتركيا، والأردن، والعراق، والخليج، وشمال إفريقيا. وكانت التعليمات في المعسكر الذي تدرّب فيه تُلقَى باللغة الإنكليزية، لكنها كانت تُترجّم إلى اللغة العربية.

وقال إنَّهم “كانوا إذا رأوا شخصاً يدخّن سيجارة أو لحيته قصيرة، يقولون إنَّه كافر ويهدّدونه بقطع رأسه”. ووصف أمير التنظيم جبهة النصرة، وهي الجماعة التي كانوا قد انفصلوا عنها مؤخراً، بالمرتدين، ومنع الاتصال بعناصرها.

في سبيل جذب المقاتلين الأجانب، كان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يقدم فوائد مادية للمنضمين، منها مرتّب شهري، والأهم، زوجة. وقال أبو خليل: “يأتي المقاتلون ويتزوجون مباشرة. ثم يشترون سيارات يحصلون عليها بأسعار زهيدة”.

وقال إن التنظيم كان يدفع مهر الزوجة السورية للمقاتل، والذي يكون عادةً بحدود 1000 دولار، لكنه يعطيهم أكثر من ذلك، بمقدار يصل إلى 4000 دولار، وقال إنَّ القيادة كانت تقدّم لهم الدعم والأموال، لكنها كانت تستثني مقاتليها السوريين من هذا الرخاء، وهو أحد أسباب انفصال الكثير من السوريين عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكان بينهم أبو خليل، الذي ترك التنظيم في سبتمبر/أيلول عام 2013.

كان أحد أكبر ألغاز ذلك الوقت هو كيف تخلَّص التنظيم في الأسلحة التي كان يستولي عليها. قال أبو خليل عن ذلك “عندما كنا نحصل على غنائم من القواعد العسكرية، لم نكن نراها بعدها أبداً”. ولاحقاً علم أبو خليل أن معظم الأسلحة التي استولى عليها التنظيم أُرسِلت إلى العراق.

مدينة الباب

إحدى الأمثلة المبكِّرة على دعم نظام الأسد لتوسُّع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من خلال القوة العسكرية كان في مدينة الباب، التي تقع شمال حلب، واستولى عليها التنظيم في سبتمبر/أيلول عام 2013.

قال عصام آل نايف، والذي كان حينها يقاتل ضمن صفوف كتائب لواء التوحيد التابع للجيش السوري الحر، ويعيش الآن في مدينة نيزيب جنوب تركيا، عن سقوط المدينة في يد التنظيم “كان لدينا 500 مقاتل بالمنطقة، واحتجنا إلى الدعم في مدينة الباب”.

أرسل بعدها الثوار تعزيزاتٍ من مدينة منبج القريبة، وأرسل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أيضاً قافلةً من منطقة كويرس، والقريبة من إحدى القواعد الحكومية في الغرب. وأضاف عصام: “تمكننا من اعتراض مكالمةٍ لاسلكية تأمر القوات الجوية بقصف القافلة القادمة من منبج”.

قُتِلَ في هذا القصف 25 مقاتلاً من قوات الثوار. لكن قافلة التنظيم استمرت نحو المدينة بلا أية مقاومة، وهجر الثوار حينها مدينة الباب. (تمكنت القوات الكردية السورية، مدعومةً من قبل الهجمات الجوية الأميركية، وقوة كونتها أميركا من القبائل العربية بالمنطقة، مؤخراً من طرد التنظيم من مدينة منبج).

وفي أواخر عام 2013، كان العديد من السوريين الذين يقاتلون ضمن صفوف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مقتنعين بأن التنظيم يتعاون مع حكومة الأسد. وفي مقطعٍ مصور طويل نُشِرَ على موقع “يوتيوب” في مارس/آذار 2014، رياض عيد، أحد المقاتلين السابقين ضمن صفوف التنظيم، الذي ذكر في المقطع أنه من مدينة مارع في محافظة حلب، استشهد بعدة حالات وقفت فيها قوات التنظيم تشاهد قوات النظام السوري وهي تستولي على مدينة تلو الأخرى من قوات المعارضة المعتدلة.

وقال عيد، الذي لم يمكن التواصل معه لاختبائه حالياً، إنَّه كان كلما يحث زملائه في التنظيم على قتال قوات النظام، كان الرد يأتيه بالرفض، ويقولون له: “لا، لا يا شيخ. هناك ما يكفي من المجاهدين لقتالهم. هناك جبهة النصرة، وهي كافية لخوض هذا القتال”.

وأضاف أنَّه عندما كانت مدينة السفيرة، إحدى المدن الكبرى في جنوب حلب، على وشك السقوط في أواخر أكتوبر/تشرين الأول عام 2013، كان مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذين كان يبلغ عددهم 500 مقاتل، يشاهدون من بعيد ولا يفعلون شيئاً. وعندما أرسل لواء التوحيد، وهو جزء من تكتل الجبهة الإسلامية، بعض التعزيزات إلى المدينة، منعها التنظيم من الوصول. وقال عيد: “عندما سألت عن سبب ذلك، قالوا إنَّ طلب المساعدة من المرتدين أمر محظور”.

أدى استيلاء قوات النظام على المدينة إلى نزوح سكانها، الذين كان يبلغ عددهم حوالي 130 ألف شخص، وذلك طبقاً لمنظمة “أطباء بلا حدود”. وتمكن النظام نتيجة لسيطرته على المدينة من التحكم بشكلٍ كامل في مصانع الأسلحة بها، التي بدأت بعدها بفترةٍ قصيرة في إنتاج البراميل المتفجرة، والتي استخدمها النظام لقصف حلب خلال عام 2014.

كما سقطت معظم محافظة الحسكة شمال شرق سوريا في يد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في فبراير/شباط ومارس/آذار عام 2014، وذلك بعد أن أرسل التنظيم قواته في قافلةٍ تكونت من 300 مركبة من بلدة الشدادي، وهي القافلة التي لم تتعرض لها الطائرات السورية الحربية، طبقاً لنصر، المسؤول السابق بالاستخبارات.

مواجهات مباشرة

كانت المواجهات المباشرة بين قوات التنظيم وقوات الأسد نادرة نسبياً. وفي يوليو/تموز 2014، بدأت القوات الجوية التابعة لنظام الأسد في قصف بعض المنشآت التابعة للتنظيم، وفي الشهر التالي، اجتاح التنظيم آخر القواعد العسكرية التي يسيطر عليها النظام السوري خارج مدينة الرقة، وأعدم مئات الجنود السوريين.

بعض الأدلة على التواطؤ بين النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هي أدلة ظرفية، مبنية على فشل الأسد في مواجهة توسُّع جبهة النصرة ومن بعدها تنظيم الدولة الإسلامية. وبعض هذه الأدلة يستند إلى معلومات استخباراتية.

إذ قال أحد المسؤولين الأتراك رفيعي المستوى في لقاءٍ بمدينة أنقرة إنه تمكن من اعتراض مكالمة لاسلكية يخبر فيها أحد القادة العسكريين السوريين مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بضرورة إخلاء إحدى المناطق قبل السادسة صباحاً، وذلك لأن القصف الجوي على المنطقة سيبدأ في هذا الوقت. وفي مكالمةٍ أخرى تم اعتراضها أيضاً، كان أحد القادة بالنظام يقترح مكافأة التنظيم على تعاونه مع النظام.

وقال المسؤول التركي إنَّه “إن نظرت إلى الطريقة التي تسير بها الأمور، لم يقم النظام السوري أبداً بقصف أية منطقة يتحكم بها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كانوا يقصفون المناطق دائماً بعد رحيل مقاتلي التنظيم، أو قبل بداية هجوم قوات التنظيم على المنطقة”.

“شراكة خلف الكواليس”

وعلق أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء التركي السابق، مبكراً هذا العام على فكرة التعاون بين النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قائلاً إنَّ “هناك شراكةٌ تجري خلف الكواليس بين النظام السوري وبين التنظيم”.

وقد ثبتت صحة هذا التعليق الذي أدلى به داود أوغلو على أرض المعركة.

عندما قصفت قوات النظام السوري مدينة الرقة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، أغفلت في قصفها كل الأهداف العسكرية الكبرى التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقتلت بدلاً من ذلك عشرات المدنيين، وذلك طبقاً للمراقبين المعارضين للحكومة السورية. وعندما هاجمت قوات التنظيم القواعد العسكرية التابعة للنظام السوري، وأعدمت القوات التي أسرتها، كانت قوات الأسد بطيئةً في الرد على هذه الهجمات، وكانت هجماتها غير فعَّالة.

وفي مدينة الباب، التي كانت خاضعةً أيضاً لسيطرة التنظيم شمالي سوريا، قصفت الطائرات الأميركية مقراً لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في 28 ديسمبر/كانون الأول 2014، وقتلت فقط مجموعة من المدنيين المُحتَجَزِين بالمقر عن طريق الخطأ. وبعدها بأيام، قصفت طائرات القوات الجوية السورية أجزاءً عديدة من المدينة، لكنها، طبقاً للمواطنين بالمدينة، لم تستهدف أياً من منشآت التنظيم هناك. واستمر النظام فقط في قصف الأهداف المدنية في مدينة الباب.

وعندما هاجمت قوات التنظيم مدينة تدمر القديمة في مايو/أيار عام 2015، أخلى الجيش السوري معظم قواعده العسكرية بالمدينة قبل الهجوم، ولم يدافع عن المدينة سوى بشكلٍ متواضع، وسمح بوقوع مخازن الأسلحة الخاصة به في يد التنظيم. وأثناء ذلك، كان النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يتشاركان في أكثر حالات التعاون وضوحاً في سوريا.

إذ إنه في ربيع عام 2015، وبينما كانت قوات النظام تترنح بسبب خسائرها الكبيرة في شمال سوريا، تواصل النظام السوري مع التنظيم لتغيير الموازين على ساحة المعركة.

كانت قوات الثوار قد استولت حينها على محافظة إدلب بالكامل، واستولى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة تدمر، ولم يكن الجيش السوري المُحبَط، الذي كان يتراجع حينها بسبب هزائمه المستمرة، قادراً على استعادة أياً من المدينتين.

وبعد اجتماعٍ بين النظام السوري وممثلي التنظيم في إحدى منشآت الغاز الكبرى في مدينة الشدادي شرق سوريا في 28 مايو/أيار، انطلقت قوافل جيش التنظيم من مدينة الرقة، ومدنٍ أخرى تحت سيطرة التنظيم، باتجاه مدينة مارع، التي تقع شمالي حلب، على إحدى طرق الإمداد الهامة من تركيا.

وبعد قيام طائرات الجيش السوري بقصف مواقع قوات المعارضة المعتدلة، تحرك مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) باتجاهها لاحتلالها. واستطاعت حينها قوات التنظيم السيطرة على حوالي ثلث المدينة، قبل أن تصل تعزيزات قوات الثوار وتهزم قوات التنظيم وتجبرها على التراجع.

وأكد أحد المسؤولين الأميركيين هذا التعاون.

تأكيد أميركي

وقال أحد المسؤولون بوزارة الدفاع الأميركية، والذي تحدث بشرط عدم ذكر اسمه، إنَّهم قد رأوا “قوات الأسد توفر الدعم الجوي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لابد أن هناك اتفاقاً ما بينهما. وقد حدث هذا أكثر من مرة”.

وكشف مسؤولو الأمن الأتراك تاريخ، وموقع، وهويات المشاركين بهذا الاجتماع، واستطاع أحد المراسلين تأكيد التفاصيل الأساسية بخصوصه.

كان هجوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة مارع في يونيو/حزيران 2015، والذي دعمته قوات النظام، ضربةً مذهلة. أرسل التنظيم القوافل التي تكونت من حوالي 60 مركبة من عدة أماكن بشمال سوريا للوصول إلى المنطقة الحدودية، ووصلت حتى كان بينها وبين المعبر بين سوريا وتركيا حوالي 6 أميال. لكن قوات الثوار اتجهت من عدة مناطق إلى مدينة مارع، ومنعت التنظيم من قطع الطريق القادم من تركيا، والذي تتدفق من خلاله المساعدات العسكرية والإنسانية إلى حلب.

ومن الأمثلة الحديثة لهذا التعاون الواضح بين قوات النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ما حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2015، عندما اضطرت قوات الثوار للانسحاب من مدرسة المشاة السابقة بشمال حلب، التي استولى عليها الثوار في ديسمبر/كانون الأول عام 2012. إذ شنت قوات التنظيم هجوماً عنيفاً على الموقع باستخدام الدبابات والمدفعية الثقيلة والسيارات المُفَخَّخة، لكنها لم تستطع السيطرة عليه، وذلك طبقاً لأحد المتحدثين باسم كتيبة الصفوة، إحدى الفصائل المقاتلة في سوريا.

وبعد ذلك، وأثناء قيام طائرات النظام السوري بقصف المدرسة، تحركت قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حول المدينة لقطع طريق الهرب على قوات الثوار. وبعد مقتل عدد كبير منها، وصل إلى حوالي 70 فرداً، اضطرت قوات الثوار إلى الانسحاب من مواقعها بالمدينة وتركها للتنظيم، والذي سلمها بعدها إلى قوات النظام السوري.

وفي فبراير/شباط الماضي، جمع الثوار بعض الأدلة والصور التي تثبت أن النظام وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بينهما اتفاقٌ فعَّال بعدم الاعتداء. إذ قال أسامة أبو زيد، المستشار القانوني للمعارضة السورية، إنَّه عندما استخدم الثوار طائرات بدون طيار لتصوير الجبهة التي تمتد إلى 35 ميلاً بين قوات الأسد وبين قوات التنظيم، اكتشفوا عدم وجود تحصينات على الجانبين، وعدم وجود أية أدلة على حدوث اشتباكات بين الطرفين.

وأضاف: “كان هناك عددٌ قليل من المقاتلين على جانبي الجبهة، لكن العدد كان أقل جداً من أن تكون هناك حربٌ بين الطرفين”.

وقال أسامة إنَّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يستمر في استخدام السيارات المٌفَخَّخة، سلاحه المفضل، ضد قوات المعارضة المعتدلة، لكنه لا يستخدمها ضد قوات الأسد أو حلفائه، أو حتى ضد الميليشيات الكردية، والمعروفة باسم وحدات حماية الشعب، التي تتحالف معها الولايات المتحدة الأميركية. وأثناء هجوم قوات النظام بمساعدة الطائرات الروسية لإنهاء حصار الثوار لمدينتي نبل والزهراء، لم يطلق التنظيم رصاصةً واحدة.

ويعتقد بعض المراقبين أن هذا التعاون الواضح بين قوات النظام وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لن يستمر للأبد. لكنهما، في الوقت الراهن، يعملان جنباً إلى جنب.

ويرى بسام بربندي، الدبلوماسي الروسي السابق والمقيم بواشنطن حالياً، إنَّ سبب هذا التعاون بين النظام السوري وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واضح، ويقول إنَّ “كلا الطرفين يعلمان أنه لا يمكن لكلاهما البقاء، لكنهما يريان أنه قبل الوصول إلى الخطوة الأخيرة في الحرب، يجب عليهما أن يقتلا كل المعتدلين. وهذا هو الأمر الذي يعمل فيه الطرفين معاً بشكل وثيق”.

هذا الموضوع مترجم عن موقع The Daily Beast الأميركي. للاطلاع على المادة الأصلية:

http://www.thedailybeast.com/articles/2016/12/05/how-isis-returned-to-syria.html

مجلس العلاقات يستنكر تصريحات مستشارة ترامب حول نقل سفارة بلادها للقدس

غزة – وحدة الإعلام

عبّر مجلس العلاقات الدولية في فلسطين عن صدمته واستنكاره لتصريحات مستشارة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب “كيليان كونواي”، بشأن نقل السفارة الإسرائيلية للقدس.

 وقال المجلس في بيان له، إن تصريحات كونواي التي قالت فيها إن نقل السفارة الأمريكية في “إسرائيل” إلى القدس يشكل أولوية كبيرة لدى ترامب، تشكل خطرا على استقرار المنطقة.

وأوضح المجلس أن أي تفكير بنقل السفارة الأمريكية للقدس يمكن أن يقود المنطقة إلى مزيد من العنف وعدم الاستقرار.

ودعا المجلس الإدارة الجديدة بالولايات المتحدة للتحلي بصفات الوسيط النزيه بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.

وشدد على ضرورة الالتزام بقرارات المجتمع الدولي التي لم تعترف بالقدس كعاصمة لـ “إسرائيل” كما لم تقم أي دولة أجنبية بإقامة سفارة لها في المدينة.

وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قد تعهد لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أنه في حال فوزه بالرئاسة ستعترف أمريكا بالقدس “عاصمة موحدة لدولة إسرائيل”.

انجرار العالم وراء معارضي أردوغان

بدأ حزب العدالة والتنمية، الذي يسيطر على تركيا، في عملية من شأنها توسيع صلاحيات الرئيس رجب طيب أردوغان والسماح بتمديد حكمه حتى العام 2029. وقد قدم الحزب أمس اقتراحا للبرلمان من اجل تغيير الدستور والغاء منصب رئيس الحكومة، ومنح الرئيس صلاحية تعيين الوزراء في النظام. وبعد المصادقة المتوقعة في البرلمان سيتم نقل التغييرات إلى الاستفتاء الشعبي ـ واذا وافق عليها المواطنون فستصبح سارية المفعول في 2019.

لقد أثبت الجمهور في تركيا في الانتخابات الاخيرة بأنه يميل للوقوف إلى جانب أردوغان ـ هذا رغم الانتقادات الكثيرة التي تم اسماعها ضده في المجتمع الدولي. وحسب رأي من يؤيدون النظام فإن الانتقادات صاخبة إلى درجة أنه لا يمكن سماع صوتها الحقيقي ـ هذا كان ايضا السبب لإقامة صحيفة «ديلي صباح». ومنذ إنشائها قبل عامين قيل إنها «بوق الحكومة» أو «منصة أردوغان». ولكن محرر الصحيفة، ساردار كرغوز، قال لصحيفة «هآرتس»: «لا أحد يفرض علي ما أفعل، وأنا استطيع قول ما أريد. يقولون إن تركيا هي دولة تتدهور نحو الديكتاتورية وتقوم بتقييد حرية التعبير، لكن ذلك غير صحيح. أنا أعمل في هذه الصحيفة واؤيد الحكومة الحالية لأنني اؤمن بذلك كشخص مستقل وحر بشكل كامل». وحسب اقوال كرغوز، فإن كثيرين من الجمهور في تركيا يعتقدون أن انتقاد الحكومة هو الذي يحدد نمط وسائل الإعلام الاجنبية، حتى لو كان ذلك مخالفا لما يريده الشارع في تركيا. «كان هناك صحافيون من وسائل الإعلام الاجنبية جاؤوا إلى هنا في السابق. وعندما رأيت ما قاموا بنشره لاحظت كيف أن أقوالي تم اقتباسها بشكل معين كي تناسب أجندة معينة وضد أردوغان».

«هناك جماعة تستمد منها وسائل الإعلام الاجنبية اغلبية اخبارها، وهي جماعة علمانية يسارية»، قال أنس بيركلي، مدير البحث في معهد ابحاث «ستاه» السياسي. «منذ بداية الثمانينيات نشأت نخبة محافظة أكثر. ورغم هذا التغيير، فإن نظرة وسائل الإعلام الاجنبية ما زالت ملك للنخبة القديمة. وهي تمثل مواقف هذه الجماعة»، أضاف. معهد ستاه يعتبر مؤيدا للحكومة، وهناك من يعتبره «بوق الحكومة».

هذه النخبة الجديدة تشمل آسلي، وهي من عائلة معروفة بتأييدها لحزب العدالة والتنمية وأردوغان. وقد اضطر عماتها للتنازل عن عدة فرص مثل مؤسسة التعليم العالي التي أرادوا التعلم فيها، على ضوء منع النساء من وضع غطاء الرأس في الاماكن العامة، حين تحولت تركيا إلى دولة علمانية في العام 1923. فقد اضطررن إلى الاختيار بين التعليم العالي والدين. وتحت حكم أردوغان تمكنت آسلي من الالتحاق بالمؤسسة للدراسة وهي تصل إلى الجامعة مع غطاء الرأس.

والدها ايضا الذي هو من أصل كردي، يؤيد أردوغان رغم معارضة الاكراد لنظامه. وهذا على خلفية التحسين الاقتصادي الذي يقف أردوغان من ورائه.

«يمكن القول إن 90 في المئة من الذين صوتوا لأردوغان قاموا بذلك لاسباب عملية»، قال بيركلي، «قبل البدء بسيرته السياسية كرئيس لبلدية اسطنبول، كان هناك انقطاع للمياه والكهرباء بشكل يومي، واكوام للقمامة شكلت مصدرا للانفجارات والحرائق.

ومنذ دخوله إلى السياسة نحن نشهد تطورا اقتصاديا لم نشهده من قبل». وحسب اقواله، من بين المصوتين لأردوغان هناك 10 في المئة فقط ممن يؤيدونه لاسباب ايديولوجية.

حسب استطلاعات معهد الابحاث التركي «متروبول» فإن نسبة تأييد أردوغان في 2012 كانت 71 في المئة. وفي انتخابات 2014 تراجعت نسبة التصويت لأردوغان إلى 52 في المئة. وبعد ذلك أظهرت الاستطلاعات أن أقل من 50 في المئة قاموا بتأييده. ومع ذلك، ومنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في آب الماضي أظهرت استطلاعات مركز الابحاث أن تأييد أردوغان زاد ليصل إلى نسبة 67 في المئة.

«إن أردوغان هو الخيار الأفضل»، قال محمد، الطالب في اسطنبول، «ما هو البديل؟ هناك الحزب الكردي الذي هو حسب رأيي حزب إرهابي كردي. وليس هناك مرشحون معقولون للاحزاب القومية المتطرفة. وهناك احزاب تسجد لايديولوجيا أتاتورك التي لم تعد مناسبة في الوقت الحالي. وهذا الحزب هو حزب غير مستقر. ما بقي إذا هو حزب العدالة والتنمية الذي هو الخيار العملي الافضل. فأفكاره أكثر منطقية وحكمه مستقر ويمكن الاعتماد عليه».

سواء نبع ذلك من اعتبارات ايديولوجية أو عملية، فقد وصل عدد كبير لتأييد أردوغان بعد محاولة الانقلاب، والعدسات الاجنبية تابعت الجموع الغفيرة التي تظاهرت. والعيون الاجنبية قد تعتبر أن هذه عبادة مبالغ فيها للشخص، وهي تذكر بالانظمة الفاشية. «هؤلاء اشخاص يناضلون من اجل مستقبلهم»، قال بيركلي.

رد أردوغان على محاولة الانقلاب الذي أثار الانتقادات في العالم، غير مرفوض بالنسبة لكثيرين من مؤيديه. لقد اتهم أردوغان فتح الله غولن بمحاولة الانقلاب. وبدأ بحملة واسعة ضده وبحملة تطهير ضد «اليزمط»، وهو حزب تابع لغولن. ويعتبر اليزمط في اوساط الاجانب حركة إسلامية معتدلة، هكذا يتم وصفه باللغة الانجليزية. ولكن بالنسبة لكثيرين من الاتراك فإن عدم التدقيق في المميزات المختلف فيها لدى هذا الحزب، هو مثابة انقطاع عن الواقع.

يتم التعامل مع حزب غولن في تركيا على أنه جماعة دينية منغلقة هدفها التغلغل إلى أكبر عدد من المؤسسات للسيطرة على الحكم. وقد عززت اقتباسات من خطابات غولن هذا الموقف، اضافة إلى الافلام الوثائقية ومقالات في صحف مختلفة، الامر الذي أثر على الرأي العام في تركيا.

على مدى السنين كانت العلاقة بين الحزب والحكومة متقلبة، وتحركت بين مكانة غير قانونية وإدانة لغولن، وبين الغاء الادانة في ظل حكم أردوغان، وكانت هناك فترة أصبحت فيها العلاقة مع الحكومة جيدة وفيها تعاون. وكل ذلك تغير في العام 2013 عندما تم الكشف عن قضية الفساد التي شملت المقربين من أردوغان وهددت بتوريطه هو نفسه. أردوغان أعلن أن فضيحة الفساد هذه تمت فبركتها من قبل اشخاص يحسدونه على نجاحه. وقد قصد حركة غولن الذي خدم الكثير من أتباعه في الشرطة. وفي العام 2014 تم الاعلان عن حركة غولن في تركيا على أنها منظمة إرهابية تحاول اسقاط النظام.

في الوقت الذي فوجئت فيه وسائل الإعلام الاجنبية من عملية التطهير الشاملة في الاشهر الاخيرة، واعتبرت ذلك بداية توجه تركيا نحو الديكتاتورية، تنفسوا في تركيا الصعداء. وبالنسبة لكثير من الجمهور، بدأ أردوغان أخيرا في التخلص من السرطان، مثلما قال عن حركة الغولنيين وكما اعتبرها الكثيرين.

حتى الآن تم اعتقال أو طرد 100 ألف شخص من اماكن عملهم، منهم معلمون واكاديميون وقضاة وجنود ورجال شرطة وموظفون في القطاع العام. إن عملية التطهير تهدف، كما قال أردوغان، إلى التخلص من أتباع غولن.

«أنا لا أنفي امكانية وجود اخطاء، وتضرر اشخاص أبرياء»، قال كرغوز، «لكننا نعيش في دولة ديمقراطية. وديمقراطيتنا قوية. والبريء ستتم تبرئته في نهاية المطاف». «أنت تعتقدين أن هذه الاقالات تؤثر على الشخص العادي كما تؤثر على وسائل الإعلام الاجنبية؟ بالتأكيد لا. الشخص البسيط كان مسرورا لأننا نتخلص منهم»، أضاف.

«لقد ذهبت إلى أحد مقرات اليزمط»، قال محمد، «وغادرت المكان بسرعة لأن الاجواء هناك كانت غريبة. أنت تأتي من اجل الحصول على الخدمة، التي كانت جيدة ـ المساعدة في الدروس البيتية، المساعدة في التحضير للجامعة والنوم ايضا لمن يحتاج. ولكنك تشعر بأن الايديولوجيا توجد هناك بشكل معين، حتى لو وصلت من أجل التعلم».

هناك من قام بتخصيص جزء كبير من وقته وعلى مدى سنين من اجل الكشف عن الجوانب المظلمة لحركة غولن واثبات ذلك. ويمكن ايجاد ذلك في الفيلم القصير من الثمانينيات الذي طلب فيه غولن من أتباعه الوصول إلى الاماكن المفصلية من اجل السيطرة على الدولة في الوقت المناسب. وقد قال غولن عن هذا الفيلم وأفلام اخرى، إنه تم اخراج اقواله عن سياقها. حنفي أباجي، ضابط شرطة رئيسي سابق، نشر في العام 2010 كتابا يصف ليس فقط الطرق التي وصل من خلالها رجال غولن إلى قيادة الشرطة، بل كيف اختلقوا فضائح وزوروا شهادات لمن كان يقف في طريقهم من اجل التخلص منه. وايضا من خلال قضاة ومحامين تابعين لهم. وقد أصبح هذا الكتاب من الكتب الاكثر مبيعا. وبعد ذلك تم اتهام أباجي بالعلاقة مع منظمة إرهابية، الامر الذي نفاه. وحكم عليه 15 سنة سجن.

اضافة إلى ذلك، وسائل الإعلام المحلية قالت إن هناك الكثير من قادة الازوتاريين الذين يؤيدون غولن. ولكن إذا كانت نظرية المؤامرة الخاصة بحركة غولن صحيحة، فليس من الواضح إلى أي درجة تورط فيها المؤيدون العاديون. ومن بين اولئك الذين يعتبرون حركة غولن جماعة منغلقة تهدد بالسيطرة، هناك من يعتقدون أن أتباع حركة غولن هم اشخاص بسطاء مع نوايا حسنة، تم تضليلهم وانجروا بشكل أعمى لقائدهم. في هذه الحالة، هل من الصحيح التخلص من 100 ألف شخص، بناء على شهادات مثل: فتح حساب في البنك التابع لغولن؟ أو التعليم في المدرسة التابعة لغولن؟ وإلى أي درجة كانت قوائم التطهير صحيحة؟.

«منظمات حقوق الانسان ترغب في القول إن هذه التطهيرات أضرت بحقوق الانسان»، قال بيركلي، «لكن كانت هذه فرصة للآخرين لاستعادة حقوقهم. الغولنيين تسللوا إلى الجهاز بشكل قوي إلى درجة أضرت بمن هم ليسوا من حركة غولن. لقد كانوا يصلون إلى المؤسسات الرسمية ويحضرون اصدقاءهم. وهناك أماكن لا يمكنك البقاء فيها إذا لم تكن من أتباع غولن».

هآرتس 11/12/2016

ماذا يتوقع أوباما حول رئاسة دونالد ترامب؟

ماذا يتوقع أوباما حول رئاسة دونالد ترامب؟

دافيد ريمنيك

كاتب وصحفي أمريكي

في صباح اليوم الذي تلا انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، استدعى باراك أوباما موظفيه إلى المكتب البيضاوي. وقد بدا أن الموظفين يشعرون بالكآبة والإهانة بسبب الهزيمة، كما بدا أنهم خائفون من أن يصبح ترامب سببا لعودة الاستبداد. واعترف أوباما والموظفين بأنهم يشعرون بالصدمة من نتيجة الانتخابات، فمن المؤكد أنهم لم يتصوروا أبداً إمكانية حدوث هذه النتيجة”.

وقد صرّح أوباما في ذلك اليوم بأن”هذه ليست نهاية العالم، فالتاريخ لا يتحرك في خطوط مستقيمة، فهو يتحرك أحياناً في خطوط جانبية، ويعود إلى الوراء في أحيانٍ أخرى”. وعندما سئل أوباما حول خسارته منصب الرئاسة، قال”أنا لا أؤمن بحدوث شيء مروع حتى تأتي نهاية العالم، كما أنه لا يوجد شيء يمكنه إنهاء العالم حتى يأتي وقت نهايته “.

يبدو أن تشبث أوباما بالأمل، جعلته يحس بمشاعر الإرادة أكثر من الجرأة، إذ كان يسعى خلال خطاباته إلى مكافحة اليأس الذي سيطر على قلوب الشباب والعديد من الأميركيين في جميع أنحاء البلاد.

وقد أدت صدمة الانتخابات إلى تفشي مشاعر الفزع والاكتئاب بين موظفي البيت الأبيض، الذين كانوا يشعرون بتفاؤل كبير حول الانتخابات. وذكر أوباما خلال مقابلة تلفزيونية أجراها في شهر يناير/كانون الثاني الماضي في البيت الأبيض في برنامج “توداي” رفقة الصحفي الأمريكي الشهير، مات لوير، أنه”بغض النظر عن ما قد يحدث في الانتخابات، فإن الأغلبية العظمى من الأمريكيين لن تخضع لترامب بسبب خوفهم منه، وإنما بسبب بساطة أفكاره”.

وعندما سأل لوير أوباما إن كان قد توقع في الوقت الذي كان يلقي فيه خطاب حالة الاتحاد؛ أنه سيأتي يوم يقوم فيه ترامب بتقديم خطاب حالة الاتحاد؟”، أجاب أوباما، الذي ذهل من السؤال، أنه “يمكنه أن يتصور أنه يقوم بمسرحية هزلية…”.

بدأت سخرية أوباما من ترامب في عشاء مراسلي البيت الأبيض في سنة 2011، ويعود ذلك إلى دعم ترامب لنظرية المؤامرة المسماة “بيرثر”، والتي تطعن في شرعية وصول أوباما للرئاسة لأنه ولد في أفريقيا. وقبل أسابيع من الانتخابات، حضر أوباما في برنامج “جيمي كيميل لايف”، أين قام بقراءة العديد من التغريدات المسيئة له، ومنها تغريدة ترامب الذي ذكر فيها أن “أوباما أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة”.

لم يتصور ملايين الأمريكيين أنه سيأتي يوم يصبح فيه ترامب رئيساً. وكان ترامب يعتبر، بإجماع كل الآراء الليبرالية، بمثابة البائع المتجول في وسائل الإعلام، والذي يبيع الجرع السحرية المليئة بالسم.

ومع ذلك، يمكن اعتبار أن انتصار ترامب كان متوقعا نسبيا، خاصةً في ظل خيبة الأمل والإحباط التي خيمت على الناخبين الأميركيين. ويظهر ذلك في إحدى الفقرات من كتاب “الارتقاء بالبلاد”، الذي كتبه الفيلسوف اليساري ريتشارد رورتي سنة 2007، الذي بيّن فيه أن الطبقة العاملة المهمشة لن تتسامح مع تهميشها المتواصل.

وكتب ريتشارد رورتي في كتابه، الكلمات التالية: “ستقرر الطبقة المهمشة أن النظام قد فشل، ثم ستبدأ البحث عن مرشح متميز للتصويت له، مرشح قادر على تحقيق العديد من الضمانات. ومن المرجح جدا أنه سيتم محو المكاسب التي تحققت في السنوات الأربعين الماضية من قبل الأميركيين السود وغيرها من الفئات الفاعلة في المجتمع”.

وقد أشار إلى ذلك ترامب، الذي كان داهية بما فيه الكفاية لاستقطاب ناخبيه بعبارات صريحة، بعد الفوز الذي حققه في الانتخابات التمهيدية بنيفادا قائلا؛إنه “يحبالأشخاص الذين تلقوا تعليما ضعيفا، مضيفا أنه يعتقد أنهم من الأشخاص الأذكى في العالم والأكثر ولاء”.

ويذكر أنه خلال جولة أوباما الانتخابية في ولاية كارولينا الشمالية قبل أربعة أيام فقط من الانتخابات، كانت المرشحة هيلاري كلينتون تتصدر جميع استطلاعات الرأي. وقال ديفيد بلوف، الذي أدار حملة أوباما الانتخابية لعام 2008، إنه “كان يتصور فوز كلينتون بنسبة مائة بالمائة”.

ويضيف “أخبرني أوباما أنه شعر بالفرح عندما علم برسالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، جيمس كومي، إلى الكونغرس التي أكد فيها أنه “سيحقق في مسألة رسائل البريد الإلكتروني كلينتون مرة أخرى”. وقد سألت أوباما، عند اشتداد سباق الانتخابات خلال الأسبوع الأخير قبل الانتخابات، حول شعوره بالثقة بخصوص يوم الثلاثاء القادم، أي يوم نتيجة الانتخابات، فنفى الرئيس الأمريكي السابق ذلك.

وعموما، يملك أوباما أسباب كافية لعدم الثقة في نتائج الانتخابات النهائية، وطوال فترة رئاسته، عمل أوباما إلى الوصول إلى نهاية مرضية. ففي أوائل عام 2015، بدت مواقف إدارة أوباما جبانة بعض الشيء حيال العديد من القضايا المهمة، إذ يقال إنه استخف بقدرات تنظيم الدولة؛ وكان سلبيا أمام مسألة ضم بوتين شبه جزيرة القرم؛ كما تسبّب تخاذله في وقوع كارثةٍ إنسانيةٍ في سوريا. فضلا عن أنه كان يقيم علاقات شبه متوترة مع كتلة الحزب الجمهوري في الكونغرس الأمريكي.

ثم خلال أسبوع واحد في شهر يونيو/ حزيران، أنهت المحكمة العليا سنوات من الدعاوى القضاية ضد قانون الرعاية الصحية، الذي يُطلق عليه” أوباما كير”، إذ حكمت المحكمة لصالح قانون المساواة في حقوق الزواج.

وعلى خلفية مقتل تسعة مصلين في أحداث إطلاق نار كنيسة تشارلستون للسود، ألقى أوباما خطابا أثار فيه عواطف معظم الأمريكيين في جميع أنحاء البلاد. لكن بدلا من التركيز في حواره على الحرب العنصرية التي تشهدها الولايات المتحدة والأسباب التي دفعت بالقاتل لارتكاب هذه الجريمة، استهل خطابه بالحديث عن الخير الكامن في الأحياء والأموات، وأنهاه بترنيمة “أمازينغ غريس” المسيحية.

تشعر إدارة أوباما بالفخر والامتنان للانجازات التي قامت بها خلال فترة حكمها، إذ أنها قبل بداية الانتخابات قامت بتوزيع كتب أشادت فيها بالإرث الذي تركته مثل؛ إنعاش اقتصاد البلاد الذي كان يعيش فترة من الركود؛ إنقاذ صناعة السيارات؛ وإصلاح الأوضاع في وول ستريت؛ وحظر التعذيب؛ وتمرير قانون الرعاية الصحية “أوباما كير”، والمساواة في الزواج؛ وقانون ليلي ليدبيتر للأجور العادلة؛ وإنهاء الحرب في العراق.

وأشادت أيضا بإجراء استثمارات ضخمة في مجال تكنولوجيات الطاقة المتجددة؛ وتعيين القاضيتان سونيا سوتومايور وايلينا كاجان في المحكمة العليا؛ قتل أسامة بن لادن؛ وإبرام الاتفاق النووي الإيراني؛ والانفتاح على كوبا؛ وإبرام اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ. كما كانت تعتبر إدارة أوباما أنها كانت قادرة خلال فترة ولايتها الأولى والثانية على الحفاظ على كرامتها دون إثارة العديد من الفضائح.

وقد تمكنت شعبية أوباما من تحقيق رقم قياسي، ولكن من المرجح أن مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، سوف تكمل مسيرة أوباما، إذا تم انتخابها رئيسة للولايات المتحدة.

هبطت طائرة الرئاسة في فورت براج واتجه الموكب إلى قاعة الألعاب الرياضية المملوءة بأنصاره من جامعة فايتيفيل. وبكل حماس، ألقى أوباما خطاب الحملة الانتخابية، الذي أعرب فيه عن تأييده لكلينتون التي ستواصل السير على خطاه.

وقال إن “كل التقدم الذي حققناه هذه السنوات الثماني الماضية، سيسقط في الماء إن لم نفز في هذه الانتخابات!” كما قام بتحذير الجمهور من الوقوع في شراك الحزب الجمهوري؛ مستعينًا ببعض العبارات المجازية، التي استخدمها للإشارة إلى دونالد ترامب، الذي اعتبره شبيها بمالكوم إكس. وذكّر الحضور أيضا ببعض خطاباته التي أبدى فيها عدم احترامه وتقديره للسود والنساء والمسلمين، والمعوقين، وآباء جائزة النجمة الذهبية.

كنت واقفا إلى جانب المسرح، عندما ظهر رجل كبير السن في الممر، كان يرتدي زيا عسكريا باليا ويحمل لافتة كتب عليها اسم ترامب. ولكن عندما لمحه الناس، بدؤوا بالتهكم والسخرية منه، ومن ثم جاءت صيحة تنادي، “هي-لا-ري! هي-لا-ري! “، ومن ثم صاح أوباما، “أصمُدي، أصمدي”.

كرّر أوباما عبارة “اصمُدي!”أكثر من ستة عشر مرة، ولكن لم يستطعْ شد انتباه الجمهور. استغرق الأمر فترة طويلة، قبل أن يتمكن من استعادة انتباه الجماهير إليه، وجعلِهم يغضون الطرف عن وجود ذلك الرجل العجوز ومتابعة محاضرته عن الكياسة السياسية التي قال فيها، “لا يجب علينا أن نقلق من وجود رجل كبير السن يدعم مرشحه، كما يجب أن لا نفقد تركيزنا بسبب وجوده.

وأضاف خلال هذا الاجتماع قائلا “أولاً وقبل كل شيء، نحن نعيش في دولة تحترم حرية التعبير؛ ثانيًا، ربما يكون هذا الرجل قد خدم في جيشنا، الذي نُكنّ له احتراماَ كبيرا. ثالثًا هو رجل كبير السن وعلينا أن نحترم شيوخنا. أما الآن، أريد منكم أن تعيروني انتباهكم، لكن إذا لم تفعلوا ذلك، سنفقد التركيز، ويمكن أن يتسبب ذلك في حصول مشاكل”.

أبلغ ترامب في تلك الليلة في مدينة هيرشي بولاية بنسلفانيا أنصاره بأن أوباما أساء لبعض المحتجين في مدينة فايتيفيل، قائلا إنه “قضى الكثير من الوقت وهو يصرخ في وجه متظاهر كان حاضرا في إحدى اجتماعاته”، معتبرًا أن “سلوك أوباما كان بمثابة وصمة عار في التاريخ الأمريكي”. وتجدر الإشارة إلى أن ترامب كان سيجد أي موضوع للحديث عنه وكان سيلفق أي كذبة لجلب المزيد من الأنصار له، فترامب هو ترامب ولن يتغير.

 وعندما توجهت الطائرة إلى شارلوت، جلست مع نائب عام ولاية كارولينا الشمالية، روي كوبر والمرشح الديمقراطي، ديفيد سيماس، الذي يشغل منصب المدير السياسي لأوباما.

ويبدو أن كوبر، الذي كان يعمل في حقول التبغ منذ كان طفلاً، لا يملك الكثير من المعلومات عن قائمة ناخبي ترامب في ولاية كارولينا الشمالية الريفية، كما عبّر عن قلقه تجاه نتائج هذه الانتخابات، كما لو كان الرئيس المقبل.

أمّا سيماس كان فقد كان شخصا يملك بعدا تحليليا عميقا للعديد من الوقائع الأمريكية، ورجلا يريد أن يكون كلامه دائما موثقا بالأرقام، والذي يعرف كل تحركات الناخبين في كل محافظة. كما أنه شبه متفائل مثل عضو الحزب الديمقراطي الأمريكي، ديفيد بلوف، بعد عملية فرز الأصوات المبكر في كلا من ولايات فلوريدا ونورث كارولينا، ونيفادا. ولكنه خلال حديثه لم يخفي قلقه حيال الإقبال المتواضع للأمريكيين الأفارقة على صناديق الاقتراع، مقارنة بتزايد إقبال الأمريكيين من أصول لاتينية.

 ولكن عندما سألته عن سيماس، لماذا يبدو أكثر ثقة من أوباما؟ ابتسم وقال، “إنها مسألة الأدوار”، مضيفًا أنه “لم يتمكن من أن يُصبح رئيسا للولايات المتحدة، منذ ثمان سنوات، لكنه في الوقت الراهن يسعى لترسيخ إرثه الخاص”.

علاوة على ذلك، فإن سيماس كان يعرف بحدوث مشكلة محتملة في المستقبل، قائلا، إن “ترامب تمكّن من تعزيز قاعدته الجماهيرية أكثر من المرشح رومني في سنة 2012، في غضون عشرة أيام فقط من انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري”.

كما أضاف أن”قاعدة الحزب الجمهوري أصبحت مختلفة تماما عن ما كنا نظن، إذ أن ترشيح ترامب رئيسا للولايات المتحدة، يُبين عمق هذا الاختلاف الإيديولوجي الذي يشهده هذا الحزب، الذي أصبح يسعى فقط للترويج والتحريض على كراهية هيلاري كلينتون”.

وما أحبط أوباما ومعاونيه كثيرا هو معرفتهم بأن قاعدة الحزب الديمقراطي لا يمكنها أن تتوسع أكثر من ذلك. فقد تحدثوا إلى شبكات وسائل الإعلام الكبرى، والصحف الكبرى والمواقع الرئيسية، للعثور على مزيد من المؤيدين لتوجهات الحزب الديمقراطي، ولكنهم كانوا متأكدين أنهم لا يمكنهم الوصول إلى الوسائل الإعلامية الأكثر قراءة، التي لا تسعى إلا لترويج الشائعات والدعايات الزائفة.

وفي هذا السياق، قال سيماس، إنه “إلى وقت قريب كانت المؤسسات الدينية، والأوساط الأكاديمية، ووسائل الإعلام، تعرف المعايير التي تحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول، وما يمكن وصفه بأنه غريب أو متطرف أو عادي أو يأتي في إطار ممارسة السياسة”.

وأضاف سيماس”لكن الأوضاع تغيرت الآن، هذه الأشياء التي قالها دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية، خاصة حول منع قدوم المسلمين وإقامة جدار على الحدود المكسيكية، إضافة إلى أقواله الساخرة من ذوي الاحتياجات الخصوصية والتحرش بالنساء، لو قالها قبل ثمان سنوات لما وجد من يسانده، ولن يحصل على أصوات الناخبين”.

ويواصل “ولكن الآن وعبر وسائل التواصل الاجتماعي فايس بوك وتويتر، أصبح يمكن تجاهل هذه المؤسسات التي كانت في السابق تُوجه المجتمع، ويمكن الوصول مباشرة إلى الناخبين والتأثير على آرائهم دون رضاهم. كما ظهر داخل المجتمع نوع من التسامح مع هذا الخطاب. وعبر نفس وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح يمكن للمتطرفين من أمثال ترامب أن يجدوا من يتفق معهم ويُثمن أفكارهم ويروج لأرائهم. وهذا يخلق نوعا جديدا من الرأي العام، الذي يدافع عن أشياء لم يكن أحد يفكر فيها في الماضي، وهذا بالطبع يمثل تغييرًا خطيرًا”.

في ذلك اليوم الذي سافر فيه أوباما وسيماس معا، تكلم الاثنان بشكل متواصل حول مقال ظهر في موقع “باز فيد” وصف فيه حادثة شهدتها بلدة فيليس المقدونية، التي قام فيها بعض المراهقين بإنشاء أكثر من مائة موقع مساند لدونالد ترامب بغرض تحقيق أرباح مادية، كما جمعوا الشباب آلاف المتابعين لهم عبر الفايسبوك، وهذه المواقع التي كانت بأسماء مثل “trumpvision365.com” و”worldpoloticus.com”، كانت معظم المنشورات فيها جدلية ومثيرة للرأي العام، ومستمدة من مواقع أخرى تابعة لليمين الأمريكي. ولو دخلت لهذه المواقع ستجد فيها مثلا؛ أن البابا فرانسيس أعلن دعمه لدونالد ترامب، وأن كلينتون نفسها شجعت دونالد ترامب على الترشح للانتخابات لأنه شخص لا يقبل أن تشترى ذمته بالمال.

وفي وقت لاحق، قال لي أوباما إن “المناخ الجديد في وسائل التواصل الاجتماعي يعني أن “كل شيء صحيح ولا شيء صحيح”. وأضاف أوباما أنه “في وسائل التواصل الاجتماعي تتشابه الحقيقة والكذبة، ويمكن لتفسير علمي لظاهرة التغيير المناخي يقدمها عالم فيزياء حاصل على جائزة نوبل، أن تحظى بنفس القدر من الاهتمام والمصداقية مثل أي منشور آخر يظهر على فايسبوك، ينفي فيه صاحبه وجود هذه الظاهرة ويعتبرها مجرد كذبة”.

ويواصل “وبالتالي يمن القول بأن القدرة على نشر الشائعات والأكاذيب، ونظرية المؤامرة المغرقة في المبالغة، وإظهار كل رأي مخالف على أنه سلبي وغير مقبول، انتشر بسرعة غريبة وأدى لحالة استقطاب حادة وغير مسبوقة داخل الرأي العام وجمهور الناخبين، وأصبح من المستحيل أن يقع تواصل أو حواراتبناءة بين المعسكرين”.

وقد مثل هذا تغيرا جذريا عما كانت عليه الأمور في الفترات السياسية السابقة، وأضاف أوباما أنه “يُفترض أنه في دولة ديمقراطية أن يتفق الجميع على أن تغير المناخ هو نتيجة مباشرة للسلوك الذي يقوم به الإنسان على سطح الكوكب، لأن هذا ما يتفق عليه 99 بالمائة من العلماء. وبعد ذلك يُفترض أيضا في دولة ديمقراطية أن نخوض حوارا حول كيفية إصلاح هذا الخطأ ومواجهة هذه الظاهرة”.

ويواصل أوباما: “هكذا كانت تجري الأمور في سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات عندما كان الجمهوريون يساندون القوانين المنظمة لهذا المجال، مثل قانون “الهواء النقي”، وفرض معايير صارمة على المواد الكيمياوية الضارة بالمناخ وبطبقة الأوزون عوضا عن فسح المجال للشركات للاستفادة من هذا المجال دون أي مراقبة. في هذه الحالة يفترض أن يكون هنالك نقاش واختلافات في الرأي حول الوسائل والسبل المتاحة لإصلاح المشكل، ولكن في كل الأحوال ستكون هنالك أرضية صلبة نجتمع عليها جميعا وهي الحقائق العلمية الواضحة، ولكن الآن لا شيء من هذا موجود”.

وفي تلك الليلة في شارلوت، وصل أوباما إلى حد بعيد من الحماس عندما وقف أمام المايكروفون، لم يكن في ذلك الحشد المتجمع أمامه أي مساند لترامب يجرأ على التشويش عليه أو استفزازه. وكالعادة استعرض أوباما سلسلة من التجاوزات والأخطاء التي قام بها المرشح الرئاسي دونالد ترامب في حق الحقيقة وفي حق الإنسانية. ففي ذلك الوقت، كان أوباما يعتبر أن السباق الانتخابي مسألة شخصية بالنسبة له، ليس فقط لأنه يرى أن فوز ترامب سيهدد كل ما بناه في ثماني سنوات.

وفي تلك الليلة، خاطب أوباما الحاضرين قائلا: “هذا المرشح يقول كل يوم أشياء كنا نعتبرها قبل أربع سنوات، ثمان سنوات أو اثنا عشرة سنة، غير مقبولة تماما وقد تؤدي إلى استبعاده من السباق. ما أقصده هنا هو أن تتخيلوا لو أنني في سنة 2008 كنت قلت واحدا من هذه الأشياء التي يتفوه بها ترامب الآن، تخيلوا لو أنني تصرفت بالطريقة المشينة التي يتصرف بها الآن، تخيلوا ما سيكون عليه موقف الجمهوريين وما سيقولونه! تخيلوا ما سيقوله الإعلام عني”.

وأثناء خروجه من القاعة، أمضى أوباما على بعض الكتب، وتوقف لالتقاط بعض الصور مع الحاضرين، وبدا منشرحا جدا وراضيا بسير الأمور. حتى أنه قال مازحا “أنا مثل المغني ميك جاغر، عجوز وشعري رمادي ولكن لا زلت أحظى بشعبية”. وفي السيارة أثناء العودة إلى مطار شارلوت، ارتمى أوباما في مقعده وقرأ مجموعة من رسائل البريد الالكتروني على هاتفه، ثم فتح مقطع فيديو من حفلة الهالوين التي انتظمت في البيت الأبيض.

وكشف سيماس أنه في تلك الليلة  “قرب أوباما شاشة الهاتف عن وجهه وقال له “أنظر إلى هذا”. وبيّن أنه على شاشة الهاتف كانت هنالك صورة طفل صغير مع شعر أملس مسرّح للوراء، يرتدي زي سوبرمان. امتدت القوى الخارقة لهذا الطفل ليفهم مصطلحات سياسية تفوق سنه، حيث كان يدعو أوباما بعبارة “Potus” التي تعني اختصارا لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وفيما بعد علمت بأنه ابن الملحق الصحفي المرافق لأوباما جوش أرنست ويبلغ من العمر سنتين.

عندما كنا في طريقنا إلى المطار تحدث أوباما عن ترامب قائلا “لقد تنبأت بحدوث هذا، ففوز دونالد ترامب ليس بالأمر الغريب بل إنه نتيجة منطقية لعمل وتكتيكات الحزب الجمهوري على مدار 15 أو 20 سنة الماضية”.

ويواصل “لكن ما فاجأني هو النجاح الذي حققته هذه التكتيكات والإستراتيجية التي اعتمدوها. لم تكن هنالك أي مبادئ للحكم ولا أحد يقول “لا، هذا الشخص قد تمادى كثيرا”، كما أنه لاقى كل المساندة. ولكن رغم ذلك فإننا نشهد هذا منذ ثمان سنوات حتى مع أشخاص عقلانيين مثل جون بوينر الذي عندما جاء وقت الحسم لم يقم بالتصدي لمثل هذه التيارات “.

وعندما سألته عن مدى قدرة ترامب على هزيمة لائحة طويلة من المرشحين الجمهوريين، أجابني بأن “هزيمة ترامب لما يقارب 15 مرشح لا تدل على المهارات التي يتمتع بها بل على المهارات التي يفتقر إليها المرشحون الآخرون. لكن من الواضح أن ترامب دخل في هذا السباق الرئاسي وهو متأكد تماما من قدرته على استغلال غضب واستياء المضطهدين، خاصة وأنه بارع في كسر الحواجز وارتكاب المحظورات بطريقة تجعل الناس يشعرون بالارتياح له”.

وما لاحظه أوباما هو أن الفئات التي صوتت لصالحه سابقا كانت من ولايات أيوا، ميشيغان، فلوريدا، وكارولاينا الشمالية. والسبب وراء ذلك هو أنه حظي بالفرصة للظهور على الساحة قبل أن ينهار نظام وسائل الإعلام القديم. ففي أواخر التسعينات، عندما كان عضوا في مجلس ولاية إلينوي ممثلا لمنطقة هايد بارك على الجانب الجنوبي لشيكاغو، بدأ في تنظيم رحلات إلى المقاطعات الجنوبية من ولاية ايلينوي مع رجل أعمال يدعى “دان شومون”.

لم يكن أوباما أبدا معروفا كمشرع في منطقة جنوب سبرينغفيلد. في الوقت الذي كانت ميشال أوباما حاملا وأحس هو بأن هذه هي فرصته الأخيرة قبل أن يرزق بطفلته. وعندما توجه نحو الجنوب أدرك بأنه الآن في مكان أقرب من ناحية المظهر وفي طبيعته إلى سكان ولايات تينيسي وأركنساس أكثر من مدينة شيكاغو.

أجرى أوباما العديد من الزيارات والتقى بعمال المصانع البسطاء، وفي دو كيوين، علم أوباما بالمشاكل التي تخلقها إحدى العصابة المكونة من العنصريين البيض تعرف باسم” التوابع”. وفي شاونيتاون، علم بما يمر به المزارعون مثل ستيف و كابي سكايتس. وفي هذا الصدد قال لي شومون ذات مرة ” إن ما أثبتته هذه الرحلات هو أن أوباما يجتذب البيض الذين يقطنون بالريف”. وفي سنة 2004، فاز أوباما بمقعد في مجلس الشيوخ الأمريكي وهَزم في الانتخابات التمهيدية دان هاينز، العضو في حزب مساند للبيض، والذي كان في تلك الفترة قد حصل على الدعم من ما يقارب جميع رؤساء المقاطعات في الدولة.

وبينما كنا نتمشى في الليل ونتجاذب أطراف الحديث قال أوباما “إن الناس لم يتوقعوا نجاحي، فقد فزت بأصوات الناخبين في جنوب إلينوي لأنني كنت أتجول بينهم وأسمع قصصهم ومشاكلهم وبتلك الطريقة أصبحت شخصية معروفة. فهم لم يتعرفوا علي من خلال شاشة التلفاز على غرار قناة فوكس نيوز وراش ليمبو وراد ستايت.

كان الناس يعرفونني على أنني شخص يدعى باراك حسين أوباما المناهض لكلينتون. لذلك كنت لا أحظى باهتمام كبير منهم، ولكنني على الرغم من ذلك سعيت لربط الصلة معهم. وما أقترحه هو أن تتاح للناس فرصة اكتساب المعرفة اللازمة بالسياسة والسياسيين. وبالفعل استطاع دونالد ترامب أن يفهم البيئة الاجتماعية الجديدة، ولا يهم بأي طريقة استطاع فهم هذا الأمر. ” إذا كنت تجذب الانتباه، وتثير المشاعر، وتحرز التقدم، فإنه بإمكانك أن تتحكم في المشاعر”.

سيدخل أوباما التاريخ باعتباره أول رئيس أمريكي من أصول إفريقية، وهو ما يجعله يشعر بالفخر. لكنه لم يتوانى على التأكيد على مدى تعقيد حياته “أنا نصف اسكتلندي ونصف ايرلندي، وعندما يتحدث أمثال جيم ويب عن العائلات الاسكتلندية والايرلندية في غرب فيرجينيا وكنساس وإلى غير ذلك، فهو بذلك يتحدث عن شعبي، حتى وإن لم يكونوا على دراية بذلك فإنني دائما أعتبرهم شعبي”.

الآن وفي عشية الانتخابات لم يكن أي شيء موظبا في الحقيبة. وبينما كان يأخذ نفسا عميقا قال “القوة تكمن في أن الأفكار تستطيع إحداث تغيير جذري، يمكن أن تتغير مواقف عامة الشعب بطريق جذرية. منذ سنتين كانت هيلاري تتمتع بشعبية لا نظير لها، حيث بلغت نسب التأييد الشعبي لها 65 بالمائة، وفي ذلك الوقت كان الناس يقارنون شعبيتها بشعبيتي، كما تطرق البعض إلى ضرورة إيجادها لطريقة لتنأى بنفسها عني. أما الآن، تعيش هيلاري العديد من المشاكل مع الرأي العام والبعض منها بسبب قلة تركيزها على توضيح الأشياء للشعب الأمريكي، لكن رغم ذلك لدي ثقة كاملة بالشعب الأمريكي فإذا سنحت لي الفرصة للحديث معهم فسيقومون باختيار الشيء الصحيح. أما على الصعيد العاطفي، فإنهم يريدون أن يفعلوا الصواب لكن ذلك لايمكن أن يحصل إلا في صورة توفر جميع المعلومات اللازمة لهم ليعرفوا الصواب من الخطأ”.

لكن وفي ظل هذا العصر الذي أصبحت فيه الأكاذيب هي التي ترسم ملامح الصواب، لم يعد أي شخص قادر على تحديد الصواب من الخطأ.

كان ظهور أوباما الأخير عشية يوم الانتخابات، وكان ذلك في تجمع في الهواء الطلق بجانب قاعة الاستقلال في فيلاديلفيا، جنبا إلى جنب مع  الفنانين جون بون جوفي وبروس سبرينغستين، وعائلة كلينتون. ولكن هذا الظهور سبقته زيارته لكل من ولايات فلوريدا، ميشيغان، ونيو هامشير، حيث سافر مع المرشحة الديمقراطية لتلك الولاية في مجلس الشيوخ، ماغي حسن. وقد روى لي لاحقا أنه تحدث معها عن الإحساس الذي اعتراه في ختام فترة حكمه قائلا “أنا أحب الغموض والسكينة اللتان تفصلاننا عن يومين قبل الانتخابات، لأن كل شيء صامت، الراديو، لا أحد من الناس سيصغي بعد الآن إلى أي حجة أخرى، وبالتالي كل شيء وضع في مكانه والآن سيخيم الصمت على البلاد. وما عليك سوى الانتظار واكتشاف ماذا سيحدث”.

كما أضاف أن “ما يحصل ليس بشيء ميكانيكي، أو صيغة ثابتة أو محددة، هنالك دائما احتمال حدوث شيء مفاجئ، وبالتالي فإن السياسة شبيهة نوعا ما بالرياضة كل شيء فيها متوقع”.

ليلة الانتخابات، كان أوباما في الطابق العلوي لمنزل البيت الأبيض. عشرات الملايين من الناس كانوا يشاهدون التلفاز أو يراقبون عن طريق هواتفهم الجوالة، قبل فترة طويلة من انتهاء الانتخابات في الساحل الشرقي. لكن أوباما لم يقم بذلك على غرار بقية الناس، وقال: “لم أعر للأمر أهمية إلا عندما حلت الساعة العاشرة، وذلك لأنني أولا، لدي العديد من الناس الذين سيتولون هذه المهمة عني؛ وثانيا لا يوجد أي شيء يدعوا لكل هذا القلق. وبالتالي كل ما يعرض هو مجرد تكهنات واهية”.

صرح أوباما بأنه كان منذ البداية على دراية بقرب النتائج. فكل المرشحين كانت لهم سلبيات ملحوظة للجميع. فكل مرشح منهما اهتمت به وسائل الإعلام لفترة ما، ولأسباب كان على دراية كاملة بها، كان يعلم أن هيلاري كانت محل الأنظار في أسبوع الأخير من الانتخابات وهو ما خلق جملة من العقبات التي حالت دون فوزها”.

وفي حوالي الساعة السابعة والنصف، سمع أوباما من ديفيد سيماس أن هنالك بعض الأرقام” التي تثير الدهشة”، خاصة في المناطق الريفية من ولاية فلوريدا. فترامب أحرز تقدما أكثر بكثير مما كان متوقعا وفي الحقيقة بهامش أكبر بكثير من الذي هزمني به كل من، رومني أو ماكين في تلك المناطق.

وحتى الساعة العاشرة كان أوباما لايزال يشاهد التلفاز، الذي اعتاد على أن يتابع من خلاله منه على كل ما يخص السياسة.كما أن السيدة الأولى ميشال أوباما لم ترد أن تجهد نفسها أو أن تقلق لذلك، ففي حدود الساعة العاشرة خلدت إلى النوم مبتعدة بذلك عن الضوضاء ولذلك قال أوباما إنها “قررت الابتعاد عن أي شيء يسبب لها الإجهاد”.

بحلول ذلك الوقت، كان من الواضح أن هيلاري كانت بصدد خسارة كل من نورث كارولاينا وفلوريدا.وأن الصعوبات التي كانت تواجهها في الجنوب بدأت تظهر في بنسلفانيا، ميشيغان، ويسكونسن. كان أوباما في ذلك الوقت بالكاد باردا وغير مبال كما كان يزعم. ولكن رغم ذلك اختار عدم التسرع أو الاندفاع، وعندما ضغطت عليه ليتحدث بصدق عن ما خالجه عندما وصل إليه الخبر لكنه بقي هادئا وكأن شيئا لم يكن.

وقال أوباما ” كيف كان ردي على هذه الأنباء؟ لقد أخبرت الناس قبل يوم من الانتخابات بأنه كانت لي تجربة سابقة من هذا القبيل. هذا جزء لا يتجزأ من لعبة السياسة، وذلك ما حصل لنا في نيو هامشير. حين خسرت لصالح كلينتون في الانتخابات التمهيدية لسنة 2008. وأضاف في نفس السياق “لقد خرجنا من آيوا والسعادة تغمرنا للنتائج التي حققناها وكأننا على سفينة صاروخية. وفي المقابل استطلاع الرأي الأولي الذي أجريناه في نيو هامشير قد تغير بعد ثلاث أيام حيث تعرضنا لتراجع بنسبة 10 نقاط. أتذكر إلى الآن مشهد كل من أكسلرود وبلوف وغيبس وهم يقفون على باب مكتبي، فيما أستعد للنزول للطابق السفلي، في حين اعتلت وجوههم مسحة من الخجل وقلت لهم “ما الذي يحدث أيها السادة؟ “فأجابني أحدهم “حسنا نعتقد أن النتائج لن تكون كما توقعنا”.

وواصل باراك أوباما حديثه قائلا “اجتاحت الجميع موجة خيبة أمل عميقة عندما خسرت في نيو هامشير، لقد كانت البداية فقط فيما بدى أنه موسم انتخابي لا نهاية له. ونظرا لحجم الصدمة، نسي جميع مؤيديا أنني في تلك الليلة بالذات ألقيت خطابي الذي كان عنوانه “نعم نستطيع”. لقد كان خطابي موجها لتحدي الهزيمة وليس الانتصار عندما قلت “نعم نستطيع”. وأتذكر أنني سافرت لبوسطن على أعقاب تلك النتائج، حيث كان لدي حفلة لجمع التبرعات، وكان من المفروض أن ألقي خطابا بحضور مجموعة من المؤيدين لي في اليوم الموالي. أصيب أكسلورد بالدهشة وكأنه يقول “لا تبدو متضايقا البتة”، فقلت له: “هل تعلم، أعتقد أن ما يحصل هو عين الصواب. هكذا يجب أن تسير الأمور، لم أستحق بعد أن أصبح رئيسا للبلاد. ليس من السهل أن تنتقل من مجرد سيناتور لم يتجاوز مدة نيابية واحدة، وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة التي تتمتع بها وفوزك بتجمع انتخابي واحد فقط، إلى رئيس للبلاد. أظن أن صوت الحكمة النابع عن المواطنين الأمريكيين يتحدث هنا. هل تعلم، يجب أن نَعتبر مما حصل ويجب أن نفتح بصيرتنا على كيفية خوض المعركة والتماشي مع المنحنيات التي ستعترضنا، وهذا ما يحتاجه الرئيس القادم للولايات المتحدة الأمريكية”.

لقد وجدت أنه من الغريب أن تتم المقارنة بين نكسة أوباما المؤقتة في نيو هامشير وصعود دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، ولكن الرئيس أوباما سرعان ما بيّن الخط الفاصل بين الوضعيتين، حين أضاف، ” في حالة فوز ترامب العواقب التي ستنجر عن ذلك أخطر بكثير من فشلي، إنها المحطة الأخيرة، إنها نهاية الطريق في الانتخابات. لا يمكنك الاستيقاظ من صدمة الانتخابات . ومن الواضح أن مشاعري حول مستقبل البلاد وإلى أين ستؤدي بها نتائج الانتخابات، تبدو أكثر خطورة وجدية مما اعتقدت. ومن ناحية أخرى، كانت النتائج مثيرة للإحباط خاصة وأن هذه الحملة الانتخابية لم تكن حملتي. إن الوضع شبيه بمراقبة الأب لطفله خلال مباراة رياضية ولا يملك القدرة على السيطرة على مجريات اللعبة”.

كانت آخر مقابلة صحفية لي مع باراك أوباما إثر اجتماعه مع الرئيس الجديد دونالد ترامب في المكتب البيضاوي. وصلت لقاعة الانتظار في الجناح الغربي على الساعة التاسعة والنصف تقريبا. كانت على الطاولة نسخة من صحيفة “يو أس أي توداي” لأخبار اليوم وكان العنوان الرئيسي:” ارتفاع عدد الهجمات العنصرية في أعقاب الانتخابات”، وكانت الصورة المصاحبة للتقرير مأخوذة من ملعب بيسبول في مدينة ويلزفيل من ولاية نيويورك، حيث رسم على الحائط باستعمال الطلاء الصليب المعقوف والكلمات التالية “اجعل أمريكا بيضاء ثانية”، وذكرت الصحيفة في ذلك التقرير أيضا العديد من أعمال العنف العنصرية التي وقعت في مدينة مابل غروف، وولاية منيسوتا وتحديدا في جامعة فيرمونت هيليل، على غرار جامعة تكساس ستيت في سان ماركوس، حيث كانت الشرطة تحاول تحديد الطلاب الذين قاموا بنشر منشورات كتب عليها كالتالي ” الآن، ومع فوز ممثلنا ترامب وسيطرة الجمهوريين على كل من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، حان الوقت لتكوين وحدات القطران والريش للقصاص وشن حملة اعتقال وتعذيب لكل القادة المنحرفين في الحركات الطلابية الذين ينادون بمبادئ التنوع والتسامح الغبية”

وكان هناك مقال آخر تحت ذلك التقرير، يتحدث عن اللقاء الذي دار بين باراك أوباما ودونالد ترامب. وكان أوباما قد تحضر نفسيا لهذا اللقاء وعزم على التصرف بكياسة عالية ولكن دون إظهار أي تنازل مقابل الرئيس الجديد، وكانت مهمته أن يقنع ترامب بمدى خطورة المسؤولية التي هو مقدم عليها في غضون بضعة شهور. وقد حاول أوباما جاهدا ألا يهين ترامب، رغم أنه من الصعب عدم التقليل من احترامه، مغبة أن يخسر الورقة الرابحة الأخيرة بيده والتي ستمكنه من التأثير في مستقبل البلاد السياسي والإدارة الجديدة.

كانت مساعي أوباما تصب بالأساس في مصلحة البلاد من خلال محاولة إقناع العالم وجعله شريكا في عملية بناء الثقة من جديد في الرئيس الجديد ترامب، بالإضافة إلى تهدئة الأسواق في مختلف أنحاء العالم والعقول على حد سواء. كما كان أوباما يريد من خلال هذا اللقاء طمأنة قادة دول العالم، والأهم من كل ذلك أن يزرع الأمل والطمأنينة في قلوب الملايين من الأمريكيين، بأن فوز ترامب لا يعني بالضرورة نهاية الديمقراطية أو بزوغ عهد جديد من الفوضى والعداء العرقي وانتهاك الدستور، ففوز ترامب ليس نهاية العالم.

ولكن حتى بالنسبة لإدارة الجناح الغربي في البيت الأبيض لم يكن من السهل تقبل الموضوع ولكن أوباما بلباقته المعهودة نجح في التعامل مع الموقف، وذلك بدا جليا عندما قام أوباما في الصباح الذي تلا ظهور نتائج الانتخابات، بمقابلة مجموعة من الموظفين صحبة رئيس موظفي البيت الأبيض، دينيس ماكدونا، حيث أخبر أوباما موظفيه أن لا يفقدوا الأمل ويجعلوا أعينهم نصب “أهداف اللعبة البعيدة المدى”.

وأخبرتني مصادر بالحديث الذي دار بين أوباما وموظفيه في المكتب البيضاوي حيث قال لهم، إن ” أغلبكم من الشباب وهذا أول نزال لكم في مسابقات رعاة البقر، البعض منكم لم يتذوقوا سوى حلاوة النصر، ولكن نحن الأكبر منكم سنا، قد عرفنا مرارة الخسارة. إنه شيء مقيت ومؤلم. إنه لمن السهل أن تكون متفائلا عندما تسير الأمور في المنحى الذي تتمناه، ولكن الوقت الحقيقي الذي تحتاج فيه أن تكون متفائلا هو عندما تنقلب الأمور إلى الأسوء”.

حاول أوباما خلال وجوده في منزله أن يرفع من معنويات فريقه والعاملين معه ويشجعهم على التفكير في إطار أكثر مهنية والتزاما.

أشاد أوباما بإدارة بوش، التي لطالما انتقدها بشكل حاد خلال حملته الانتخابية في سنة 2008، نظرا للسخاء والكفاءة التي أظهرها موظفو إدارة بوش خلال عملية تحول السلطة وتسليمها لإدارة أوباما، ودعا موظفيه أن يتعاملوا بنفس الطريقة مع الإدارة الجديدة لترامب ليعرفوا على أنهم أكرم الناس ضيافة في أكثر المنازل شهرة في الولايات المتحدة الأمريكية. كما أكد أوباما على ضرورة أن يظهروا تعاونهم وإحساسهم بالفخر حتى من خلال لغة جسدهم.

ولكن رغم الجهود الحثيثة لأوباما لتهدئة الوضع، لم يكن بإمكانه القيام بأي شيء من شأنه أن يخفف من وطأة فوز ترامب سواء داخل البيت الأبيض أو في العالم عموما. وتجدر الإشارة إلى أن فوز ترامب لم يمثل تهديدا واضحا فقط لإرث أوباما من التشريعات التقدمية التي حققها بالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية التي أبرمها، بل أيضا لعدد لا يحصى من النساء والأمريكيين من أصول أفريقية ولاتينية على غرار الآلاف من المسلمين والأقليات الأخرى. كما أثار فوز ترامب قلق المواطنين والصحفيين والمختصين في مجال الأمن القومي وغيرهم من المؤسسات الأخرى.

كانت نتائج الانتخابات بمثابة ضربة موجعة لكل الذين كانوا يتوقعون تقدم الحزب الديمقراطي: لم يحقق الحزب الديمقراطي أي انجازات تذكر فقد استطاع انتزاع السيطرة على المجلس التشريعي لولاية إضافية فقط . أما على مستوى مجلسي النواب والشيوخ فالحزب لم يفز إلا بعدد قليل من المقاعد الجديدة في مجلس النواب واثنين فقط في مجلس الشيوخ.

شهد الديمقراطيون خسارة لأثنين من الحكام في ولايتين، مما جعل أقل من ثلث الولايات تدار من قبل حكام ديمقراطيين. إن حزب فرانكلين روزفلت وروبرت كينيدي يشهد منعطفا حرجا في تاريخه، إذ يعتبر وضعه الحالي من أضعف الأوقات التي مر بها الحزب منذ عقود.

أما بالنسبة لروسيا، كان من الواضح لماذا ابتهج فلادمير بوتين والنخبة السياسية بفوز ترامب. نعم، ترامب يمثل لهم “الأحمق المفيد” والقائد الأكثر ضعفا وارتباكا في تاريخ الولايات المتحدة، والذي من المرجح أن يكون سعيدا بمنح روسيا حرية التصرف التامة في المنطقة انطلاقا من أوكرانيا إلى دول البلطيق، كما يعتقد بوتين أن كيانه يمثل زعيم الأيديولوجيات في العالم غير الحر، عكس ما هو عليه الغرب المنافق وفي المقابل يمكن أن يجد في البيت الأبيض حليفا جديدا له.

نقل لي أحد العاملين بالبيت الأبيض أجواءه إبان ظهور نتائج الانتخابات وقال ” كنا وكأننا في جنازة، وكنت ترى ذلك في كل أرجاء البيت من خلال الموظفين الذين كانوا يسيرون في بهو المنزل منحنية رؤوسهم وعيونهم شاغرة. أخبرني باراك أوباما بأن العديد من الموظفين قالوا له إن هيلاري كلينتون كانت ستصبح رئيسة ممتازة، كما أعربوا عن استيائهم من الحملة الانتخابية التي أدارتها”.

وخلال حواري الطويل مع باراك أوباما كان لا مفر لنا من الحديث حول جو بايدن، الذي استطاع أن يثبت نفسه تحديدا أين فشلت كلينتون: في ولاية بنسلفانيا وميتشيغان وويسكونسن وولاية أوهايو. والجدير بالذكر أنه كانت هنالك حالة من الغضب والاستنكار للتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، من خلال الهجوم الإلكتروني التجسسي الذي شنته بمساعدة جوليان أسانج وأستُقبل بحفاوة من قبل المرشح الجمهوري.

بعد مرور ثلاثة أيام على فوز ترامب، كان جدول أعمال باراك أوباما يتضمن رحلة إلى المقبرة الوطنية في أرلينغتون، لإلقاء الخطاب السنوي حول قدماء المحاربين أمام آلاف الجنود المتقاعدين وعائلاتهم. وكانت سيارة الليموزين الرئاسية، الملقبة بالوحش، ورتل طويل من الشاحنات السوداء وسيارات الأجهزة الأمنية، تصطف في المرآب الجنوبي في البيت الأبيض. ولم يكن من الصعب ملاحظة ذلك في ظل المزاج العام الذي خيم على الأيام الأخيرة والوجهة التي سيذهب إليها الرئيس، لقد كانت الإجراءات الأمنية مشددة.

التصريح الرسمي الذي أدلى به البيت الأبيض جاء فيه؛ أن اللقاء الذي عقده أوباما مع الرئيس المنتخب دونالد ترامب في البيت الأبيض، والذي دام حوالي ساعة ونصف، جرى بشكل جيد وأظهر ترامب خلاله اهتماما وتفهما كبيرين. ولاحقا عندما سألت أوباما عن حقيقة ما جرى في ذلك اللقاء، ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة وقال: “لا أعتقد أنني أستطيع أن أصف ذلك بدون…”. ثم توقف عن الكلام وقال لي أنه لن يستطيع إخباري بذلك الآن، ووعدني أنه سيروي لي ما جرى في لقاء آخر عندما يدعوني لتناول مشروب بعيدا عن الرسميات.

لم أكن أنتظر أن يدعوني أوباما لتناول ذلك المشروب في أي وقت قريب، ولكن بعد تلك الجلسة مع الرئيس المنتخب، قال أوباما لبعض موظفيه أنه تحدث مع ترامب حول أبجديات تكوين حكومة ورسم سياسة عامة، ومواضيع مثل الاتفاق النووي مع إيران، وسياسة مكافحة الإرهاب، وتأمين الرعاية الصحية، وكان فهم الرئيس المنتخب لهذه المسائل إلى حد ما متواضعا. ترامب رغم طبيعته المتهورة في العادة، بدا خلال ذلك اللقاء مصدوما ومرتبكا من هول ما قيل له، والمسائل الكبرى التي سيتحتم عليه التعامل معها.

دينيس ماكدونا كان يتجول رفقة عائلته وبعض الأصدقاء، وفي اليوم السابق جاء إليه مبعوث ترامب ليشرح له كيفية تعيين الموظفين وإدارة البيت الأبيض، وكان ذلك الشخص هو زوج ابنته، جارد كوشنر، وذهبا في جولة في الحديقة الجنوبية.

سألت ماكدونا حول فحوى ذلك اللقاء، فرمقني بنظرة مرعبة وقال: “كل شيء يسير بشكل رائع”. ثم عض على شفتيه وحرك فمه بطريقة فيها الكثير من السخرية والتوتر، وقال: “ربما إذا واصلت التفاؤل والقول إن كل شيء يسير على ما يرام، فإن الأمور فالنهاية ستصبح على ما يرام”.

رغم أن أوباما ومساعديه كانوا دائما قلقين من الخطاب المخيف الذي يتبناه دونالد ترامب وقلة إلمامه بالسياسة، فإنهم قرروا أن أفضل طريق يجب سلكه هو ارتداء قناع الرضا والتعامل معه بكل لباقة، وكان ذلك ليس فقط خيارا شخصيا، بل كان خيارا تكتيكيا. من أجل الحصول على فرصة مواتية للتأثير على ترامب، توجب عليهم التخلي عن كل مظاهر المعارضة والتشهير التي كانوا يمارسونها ضده أثناء الحملة الانتخابية.

ربما تكون أكثر اللحظات حزنا وإيلاما بالنسبة لطاقم موظفي البيت الأبيض هي رؤية أوباما وترامب يجلسان جنبا إلى جنب في المكتب البيضاوي. هذا الرئيس الذي كافح بكرامة لإنقاذ البلاد من كارثة اقتصادية، وضغط بشدة من أجل تحقيق التقدم والتطور، في عدة مسائل تهم الحقوق الفردية والمدنية، ومكافحة ظاهرة التغير المناخي، أصبح الآن يرتدي قناع الترحيب والصداقة في وجه زائر لا يستحق غير الاحتقار، فهذا الزائر مشكوك في أخلاقه وجنى ثروته من تجارة العقارات، وبدأ مسيرته السياسية عبر نشر الأكاذيب المتعلقة بشهادة ميلاد باراك أوباما وبأن مكان مولده هو خارج أمريكا، وخاض فيما بعد حملة انتخابية تميزت بالعنصرية والتمييز ضد المرأة وكراهية الأجانب لاستقطاب الناخبين. في المكتب البيضاوي، حاول الرئيس مواساة الموظفين الشبان بسرعة، ولكن واحدا من هؤلاء أخبرني بأنه كان قلقا أكثر بشأن الجراح التي ستخلفها هذه الانتخابات لدى فئة من الأمريكيين، الذين يتعرضون بشكل متواصل للشتائم والإهانات من قبل الرئيس المنتخب.

وخلال مناسبة اجتماعية في بداية السنة الجارية، سأل شخص ميشال أوباما حول الطريقة المثلى التي يمكن من خلالها للرئيس أن يحافظ على توازنه وسط كل الدعوات التحريضية والكراهية المنتشرة في البلاد، فأجابت: “لا فكرة لديكم حول صعوبة هذا الأمر، إلا أن أوباما يمارس الهدوء وضبط النفس بشكل يفوق التصور”.

أولئك الأكثر قربا من أوباما في البيت الأبيض يقولون إنه يتعامل مع الأمور بالرصانة والصمت، وأحيانا بالسخرية لصد الهجمات، تماما كما يتم إفراغ البالون من الهواء شيئا فشيئا، كذلك يفعل أوباما الذي يفضل عدم إصدار الكثير من الضجيج. فهو لا يفقد أبدا قدرته على الالتزام الذي يدعو الناس إليه، وهو شخص في غاية الذكاء وواسع الاطلاع على ما يحدث في أمريكا، بأفضل مميزاتها وبأسوأ عيوبها. وفي السر لا تخفي ميشال أوباما تذمرها من عدة أشياء على غرار انتشار العنصرية، كما أنها عبرت عن بعض هذه المخاوف في العلن، حين تكلمت بكل حماس وقوة في واحدة من أروع خطبها في الحملة الانتخابية، حول كراهية دونالد ترامب للنساء واحتقاره لهن.

ليس هنالك شك في أن أوباما في أعماقه يحتقر ترامب كثيرا، حيث أنه يستوعب بشكل تام طبيعة ترامب وعنصريته والخطاب العدمي الذي تبناه باسم الدفاع عن الطبقة المتوسطة، إلا أن أوباما يمتلك طريقة خاصة به للمحافظة على هدوء أعصابه والتأكيد في كل مرة على ثقته في المؤسسات الأمريكية.

لقد قال لي: “أنظر، من خلال مسيرتي ومن خلال التجارب التي خضتها فإنني أؤكد أن التفاؤل الذي أحافظ عليه وأبشر به أمام الشعب الأمريكي بصفتي رئيسا هو تفاؤل حقيقي، هذا مع أعلمه كل يوم لبناتي، حول كيفية التعامل مع الأصدقاء والغرباء. أنا فعلا لا أتوقع مفاجآت سيئة لأنني في أغلب الأوقات وجدت مفاجآت سارة. لذلك من الخاطئ أن يعتقد الناس أنني أقوم باستمرار بإخفاء رأيي الحقيقي وأعض على لساني وأخفي غضبي وأتظاهر بالهدوء، أنا لست ممثلا بارعا إلى هذا الحد. لقد ولدت لأم بيضاء، ربتها أم بيضاء، وجداي أحباني بكل عمق. أنا أتمتع بعلاقات طيبة جدا مع أصدقائي دامت لعقود، وقد تم انتخابي في مناسبتين من قبل أغلبية الشعب الأمريكي، وفي كل يوم أتعامل مع أشخاص يحملون نوايا طيبة في أي مكان أذهب إليه”.

أوباما هو شخص وطني، وهو متفائل بشكل غير مألوف. وقد كان في الماضي يأمل بأن يكون النسخة الأكثر ليبرالية من رونالد ريغن، إلا أن الظروف حتمت وجود اختلافات كثيرة بين الرئيسين، لسبب معين وهو أن أوباما لا يؤمن بذلك التعريف الكلاسيكي للروح الأمريكية، الذي يفترض أن الأمريكيين يمتلكون أكثر مهارة وذكاء وفضيلة من بقية الشعوب، وأنهم ترافقهم العناية الإلهية لأن “الرب يحب هذه البلاد”. أمريكا هي دولة قامت على أفكار فلاسفة التنوير وتطورت ليس فقط بمجرد مجموعة من التشريعات، بل من خلال تحركات اجتماعية عديدة، وبالنسبة لأوباما هذا هو التعريف الحقيقي للروح الأمريكية. في السنة الماضية بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الشهيرة التي قادها مارتن لوثر كينج من منطقة سيلما إلى مونتغومري للمطالبة بالحق في التصويت، وقف أوباما عند جسر إدموند بيتوس في سيلما في ولاية ألاباما، وقدم تعريفه للهوية الأمريكية التي يجسدها أبطال البلاد الذين حاربوا من أجل الحرية: سوجورنر تروس، سوزان أنطوني، جون لويس، الأمريكيون الذين سالت دمائهم في مدن سان فرانسيسكو ونيويورك، عمال الإنقاذ والمتطوعين خلال أحداث 11 أيلول/سبتمبر، والمهاجرون والناجون من المحرقة اليهودية، والأطفال الضائعون من السودان، وكل المكافحون الذين يدفعهم الأمل إلى عبور نهر ريو غراندي من المكسيك إلى أمريكا.

الآن وقد بدأ أوباما في إجراءات نقل السلطة إلى دونالد ترامب، أصر الرئيس أمام وسائل الإعلام على أن المحادثة بينه وبين الرئيس المنتخب جرت بشكل رائع.

وجلس أوباما في مقعده في السيارة وخرج مع رتل السيارات المرافقة له من بوابة البيت الأبيض نحو شوارع واشنطن العاصمة ومنها إلى المروج الخضراء في أرلنغتون. وكنت حينها محشوا في سيارة مكتظة بمسؤولي البنتاغون، وكانوا يتهامسون خفية حول الانتخابات وما تلاها من تطورات، ولكن ما إن وصلوا إلى البوابات، وبدؤوا يرون الآلاف من شواهد القبور، ويستمعون إلى عزف موسيقى المراسم وصوت إطلاق المدفعية، صمتوا جميعا. بعد فترة أشار أحدهم إلى أن أوباما كان على وشك السفر للخارج في رحلة تدوم أسبوعا كاملا تبدأ من اليونان. وقد علق شخص آخر حينها بالقول: “اليونان مهد الديمقراطية، من الصعب السفر إليها بعد هذا الأسبوع المرير”.

بعد خطابه فوق مدرج النصب التذكاري، عاد أوباما إلى البيت الأبيض لتناول الغداء وإجراء بعض اللقاءات، شاهدته بعد ذلك في المكتب البيضاوي، يرتدي قميصا ويعقد ربطة عنقه، ثم جلس فوق الكرسي الذي التقى عليه دونالد ترامب في اليوم السابق، وطلب بعض الشاي.

طوال حملته الانتخابية كان يقول لأنصاره بأنه في صورة فوز ترامب “غير المؤهل” و صاحب المزاج الذي لا يصلح ليصبح القائد العام للقوات المسلحة فإن كل ما تم إنجازه في الثماني سنوات الماضية سيذهب سدى. فسألته عما إذا كان يؤمن فعلا بما قاله فأجاب وهو يضحك ضحكة مريبة “بما أن الانتخابات الآن انتهت، لم أعد أؤمن بذلك. وهذا ليس لأنني كنت أبالغ فيما قلته، فأنا إلى حد الآن أعتقد أن احتمالية أن يذهب كل ما حققناه مهب الريح مازالت قائمة. ولكن من الناحية العملية، ما كنت أقوله للناس وبما في ذلك الموظفين العاملين لدي، هو أن الحكومة الاتحادية ليست مجرد قارب سريع وإنما هي حاملة طائرات. وإذا كنت تريد أي دليل على ذلك، فكر ماليا في الصعوبات التي واجهناها في الثماني سنوات الماضية خاصة مع أجندة تقدمية واضحة جدا، وأغلبية ساحقة في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، كما أن ما أنجزناه محليا في هذه الفترة لم ينجز منذ الفترة الأولى والثانية للرئيس ليندون جونسون. لكن تحقيق ذلك كان حقا جدًا صعبًا”. كما أضاف أوباما أنه “قد أنجز 70 أو 75 بالمائة مما كان يطمح إليه، وربما  15 أو 20 بالمائة استعصي عليه تحقيقه.”

ثم أردف قائلا “من الواضح أن قانون الرعاية الصحية “أوباما كير” على ما أعتقد هو الأكثر ضعفا. لذلك كان محل نقاش الجمهوريين في الست سنوات الماضية. ففي أذهان القاعدة الجمهورية هذا القانون هو مثال على برنامج حكومي هام سيأخذ شيئا منهم ويعطيه لشخص آخر لا يستحقه”. لكنه قال بأنه ورغم رغبة الجمهوريين في إسقاط هذا القانون إلا أن عليهم المضي قدما فيه، خاصة وأن العشرين مليون أو أكثر المستفيدين منه يشمل أيضا الناخبين الذين صوتوا لصالح ترامب “حتى وإن رفضوا أن يربطوا صلةً به”.

فإذا كان الجمهوريون مُصرين على ” العبث بالبرنامج أو تعديله، فهم مازالوا مطالبين بالالتزام بتوفير التأمين الصحي للأشخاص الذين اعتادوا على تلقيه. وبالتالي فإن ما عملنا على تحقيقه لن يذهب مهب الريح”.

وعلى الرغم من الاستنكارات المتكررة للرئيس الجديد دونالد ترامب، إلا أن موقف أوباما من الاتفاق النووي الإيراني مشابه لموقفه لحد كبير. وفي هذا الخصوص قال أوباما إنه “في الحقيقة لدينا من الأدلة ما يثبت ذلك، كما أن الجيش الإسرائيلي والمخابرات الإسرائيلية على دراية كاملة بهذا، ففي الواقع حقق الاتفاق النتائج المرجوة منه”. لكنه أضاف أنه على الرغم من ذلك فإن الاتفاق لم يضع حدا لبعض تصرفات إيران العدائية، لكنها في المقابل ضمنت أن إيران في الوقت الراهن لا تمتلك قدرات متقدمة لصنع سلاح في مدة زمنية وجيزة. ولذلك فالقرائن التي قدمت أنفا تؤكد أنه من غير المعقول أن يصرح الجمهوريون بمثل هذه التصريحات”، هذا الشيء قد أثبت فعاليته، وعلى الرغم من أن أوباما لم يعد يترأس البلاد فهذا الاتفاق ليس من بين الأشياء التي تعمل قاعدتنا على إلغائها، وبالتالي لن نحدث أي تغيير فيه”.

أدى هذا الكلام بالبعض إلى الاعتقاد بأن أوباما كان منخدعا عندما طالب ببعض الضمانات. وهو ما أشار له الكاتب في صحيفة واشنطن بوست، جيمس هومان، بقوله بأن أوباما الآن بلغ المرحلة الأولى من الحزن والإنكار من الخمس مراحل التي أشارت لهم الكاتبة إليزابيث كوبلر روس فيكتا في كتابها “حول الموت والممات” وبالتالي فان الغضب، المساومة، الاكتئاب، والقبول مازالوا في طريقهم إليه. لكن أوباما وبكل برود قال إن سجل ترامب الحافل بتغيير مواقفه من دون إحداث أي خسائر في صفوف أنصاره أمر مثير للاهتمام.

كانت طريقة أوباما في صياغة أفكاره جد دبلوماسية، ” أظن أن الرئيس المنتخب أظهر نفسه في صورة المرشح الذي يستطيع البقاء على تواصل مع أنصاره وهو ما أعطاه المزيد من المرونة أكثر من أي مرشح عادي آخر، أظن بأن أنصاره يثقون به بغض النظر عن ما يقوله أو ما يفعله”.

ونتيجة لذلك، يجب علينا الانتظار والتمعن عن كثب عن كيفية إدارته للسلطة. ولصياغة ما قلته بطريقة أخرى، إذا اقترحت شيئا ما وكان هذا الشيء موجود حرفيا في برنامج الحزب الجمهوري فإن ما يقارب 80 أو 90 بالمائة من الناخبين الجمهوريين سيرفضونه قطعيا ليس بسبب تقييمهم له بل لأنني أنا من اقترحته.

في الوقت نفسه رفض أوباما أن يتطرق للأسباب التي حالت دون فوز كلينتون والحزب بالانتخابات. وهو ما اعتبره رفضا لأسباب شخصية، وقال “أظن أن بعض الأسباب التي أدت لذلك بسيطة جدا، والشيء الذي استطاع ميتش ماك كونيل التفطن له منذ أول يوم لي في الحكم، هو أن الناس لا يلقون بالا لكيفية سير الأمور في واشنطن. بيد أنهم على دراية كاملة بأنه ثمة لوبيات، أشخاص يعملون لتحقيق مصالحهم الخاصة، بالإضافة إلى العوائق التي تقف في طريقهم وبأن الأشخاص ذوي النفوذ لديهم سلطة أكثر منهم.

إذا لم تكن الأمور تسير على قدم وساق وإذا كان الطريق مليئا بالمطبات، من المفترض أن الرجل الوحيد الذي يستطيع إحداث التغيير ومساعدة الناس هو الرئيس. وبالتالي فإن الاستراتيجية التي اعتمدها كل من ميتش ماك كونيل والحزب الجمهوري خلال فترة حكمهم، كانت ذات فعالية.

وما يفهم من هذا كله، هو أنه إذا تم إتباع الطراز القديم في المتاجرة، والمساومة، والانقسام الحزبي، فإن الناس سيشعرون على نحو أفضل. وإذا شعر الناس على نحو أفضل فإنهم سيكونون راضين عن عمل حزب الرئيس وبالتالي هذا سيضمن استمرارية الحزب، أما إذا شعر الناس بأن هنالك شيء ناقص أو عالق، فذلك سيعمق شعورهم بالسخط وهو ما سيؤثر سلبا على الرئيس وعلى حزبه.

أوباما كان مقتنعا بأن ترامب ظفر بالرئاسة على الأقل كبطل يعمل من أجل التصدي لمؤسسات الحكم المتمردة. لذلك قال ” أعتقد أن الرئيس المنتخب قادر على التوصل لاتفاق من شأنه شأنه شأنه أن يُفجر هذا المكان، لكن هيلاري كانت أكثر ضعفا لأنها كانت تعد دخيلة وخير دليل على ذلك التقارير التي لا تحصى ولا تعد التي كتبت عن خطابات غولدمان ( الخطابات التي ألقاها المدير التنفيذي لمؤسسة غولدمان ساكس) وهو ما أضعف فرصها، أي الفرص المعتادة للحزب الديمقراطي وهو أيضا ما ساهم في تغيير نظرة الطبقة العاملة لنا. وأنا أعتقد أن ذلك مجحف في حقنا، ولكن هذه الأسباب هي التي ساهمت في إخراجها من السباق الرئاسي”.

وأعادتني مجريات الحديث إلى ما كان يقوله في سيارته خلال جولة في شمال كارولينا، حيث صرح بأنه قبل ظهور عصر وسائل الإعلام الجديدة كان قادرا حتى كرجل أسود “مع اسم غاية في الغرابة” على مقابلة الناس في منازلهم وأن ينقل مشاعره الصادقة إليهم، “بأنه يهتم لأمرهم وأنه على اتصال دائم بهم وأنه ليس هنا من باب الشفقة، بل قد يكون هنا للأسباب الصحيحة… ولقد لاحظت وجود احترام كبير لي من قبل الناس الذين عرفوا بانحيازهم ضد الأمريكيين من أصول أفريقية أو لاتينية أو الذين لديهم أحكام مسبقة ضد النساء، إن جوهر المسألة يتمثل أساسا في: كيف يمكن أن نكسر هذه الحواجز؟”.

قمت بتذكير الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه قبل ثماني سنوات عندما كنت أجري مقابلة صحفية معه حول مشكلة التمييز العرقي، حاول التملص من الإجابة خلال المقابلة الرسمية . ولكن بعد المقابلة وخلال مغادرتي للمبنى لحق بي ليذكرني بمدى صعوبة وتعقيد الموضوع، لذلك لا يمكن له التحدث بإطناب فيه. فعادت الذاكرة بأوباما لتلك المقابلة، حيث قال لي إن أي كلمة طائشة حول العرق أشبه بكلمة طائشة في سوق المال، وفي كلتا الحالتين تلك الكلمة هي بمثابة قنبلة متفجرة وسط كيان الدولة.

وصرح باراك أوباما بأن هنالك بعض الأمور التي يدركها حق الإدراك وأضاف قائلا ” نحن نعلم أنه عندما يكون هنالك حوار حول الشرطة والأمريكيين من أصول أفريقية والصراع القائم بينهما، فإن كلا من الأطراف المتنازعة ينظر للموضوع من وجهة نظره. هذا الموضوع يتسبب في ظهور أعمق الصور النمطية والأحكام المسبقة من كلا الطرفين. إن أكبر انخفاض شهدته نسب استطلاع الرأي حولي خلال الستة أشهر الأولى من مدتي الرئاسية لم تكن لها علاقة بالاقتصاد بل بسبب الأزمة العرقية التي تخللها اجتماع في البيت الأبيض عرف “بقمة البيرة”.

في شهر أغسطس/ أب، تم إلقاء القبض على أستاذ أسود بجامعة هارفرد، “هنري لويس غيتس” البالغ من العمر58 سنة، على أعتاب منزله من قبل ضابط شرطة أبيض. أعقبت الحادثة ضجة ضخمة خاصة بعد أن أبدى باراك أوباما تعاطفه مع غيتس. وأملا في تهدئة العاصفة، قام البيت الأبيض بترتيب لقاء جلسة ودية بين غيتس والشرطي. وفي هذا الصدد، قال أوباما ” إن نسب التأييد لي في استطلاعات الرأي قد انخفضت وسط صفوف الناخبين البيض، لا أدري تحديدا الأرقام ولكن أظن أنها بلغت نسبة 10 بالمائة أو أكثر”. وأضاف أوباما ” إذا لم تأخذ حذرك أثناء الحديث عن القضايا العرقية لا سيما إذا تعلق الموضوع بنظام العدالة الجنائية فإن الناس سرعان ما يغلقون أذانهم ويرفضون الاستماع لك”.

وعادت به الذاكرة إلى ذلك اليوم المشؤوم في أغسطس/ أب، وأضاف أوباما قائلا ” اعتقدت أنه إلى حد ما لن يكون كلامي مسيئا لأحد إذا قلت أنني لست مطلعا على كل الحقائق فيما يخص القضية، ولكن إذا قابلت رجلا أسود محترم ولو بدا مثيرا للريبة بالنسبة لضابط الشرطة فإنه من غير المعقول إلقاء القبض عليه وهو في بهو منزله . كنت أعتقد أن كلامي سوف يفهم على أنه تحليل منطقي للأحداث لكن ردة فعل المواطنين كانت غير متوقعة وعنيفة جدا. ونظرا للواقع الحالي، يمكن القول أنه عند الحديث في مسائل متعلقة بالأسرة والخدمات أو الرياضة أو الثقافة الشعبية، نادرا ما تظهر ردود الأفعال النمطية من المواطنين، وفي حال وجود ردود فعل من ذلك النوع، أغلب الناس يشعرون بأنه تمت إهانتهم من قبل أولائك الأشخاص. لذلك فالسؤال الذي لطالما جال في ذهني على امتداد فترتي الرئاسية وخلال هذه الانتخابات، كيف بإمكاني تعزيز الجوانب الإيجابية في طبيعتنا؟ وكيف يمكننا إخماد الدوافع العرقية لدينا؟”.

كان الرئيس باراك أوباما يتميز بقدرة خارقة على عرض المأزق الذي تمر بها البلاد، كما لو كان يقوم بصياغة دراسة علمية، على الرغم أن الوضع لا يمكن النظر إليه إلا من منطلق أنه منعطف مأساوي في التاريخ الأمريكي.

وعبر الرئيس باراك أوباما عن ما يعتقده بخصوص توليه الرئاسة، حيث قال “في مرحلة معينة من تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن هنالك مفر من وجود رئيس مثلي. ربما كان شخص آخر يدعى غونزالس عوضا عن أوباما، ولكن وجود رئيس مثلي كان حتميا. قد أكون قد ظهرت قبل 20 سنة مما توقع الجميع، لذلك كان وصولي للسلطة مثيرا للدهشة مما وضع الدولة في موقف احتاجت فيه لوقت مطول لقبول ذلك والتعود عليه. حقيقة فوز رئيس من أصول أفريقية برئاسة البيت الأبيض، في ذلك الوقت خلق شعور متزايد بالقلق ولكن في غضون عشرين سنة من الآن قد لا تكون ردود فعل المواطنين شبيهة بما عليها الآن، وذلك مفهوم كليا”.

طرحت على أوباما السؤال التالي: كيف تكلمت مع ابنتيك حول نتائج الانتخابات وحول الأحداث العنصرية التي وقعت على إثر فوز دونالد ترامب؟

أخبرني أوباما أنه قال لهما “إن الأشخاص معقدين.. إن الثقافات والمجتمعات معقدة حقا.. إن هذا ليس علم رياضيات بل هو علم الأحياء والكيمياء حيث الكائنات الحية تتصارع وتتنافس. وظيفة كل واحدة منكما كمواطنة صالحة وكإنسانة محترمة هي الكفاح من أجل مد العون ومساعدة الآخرين بكل لطف واحترام وتفهم. يجب أن تتوقعي أنه في كل لحظة قد تضطرين لمواجهة مواقف متعصبة أو قد تنبثق من داخلك أفكار متعصبة يتوجب عليك قهرها والتغلب عليها. ليس هناك من داع للقلق حول نهاية العالم. فأجابت إحداهن بالقول “حسنا، من أين أنطلق لكي أمضي قدما في الحياة”.

بالنسبة للحزب الديمقراطي هذه الأسئلة لها أبعاد إستراتجية، فبعد باراك أوباما وهيلاري كلينتون أصبح الحزب يعاني من فراغ فعلي.

وأصر أوباما على أن الحزب لا يزال يتمتع بلائحة من السياسيين الديمقراطيين الموهوبين ولكن العديد منهم لا يزالون جددا في الساحة. وذكر أوباما السيناتور الجديد عن ولاية كاليفورنيا، کاملا هریس، وبيت بوتيدجيغ الذي أنتُخب مرتين كعمدة بلدية ساوث بند في ولاية إنديانا، وتيم كاين والسيناتور مايكل بينيت عن ولاية كولورادو.

أما فيما يخص خسارة حزبه هذه السنة في الانتخابات فقد نوه باراك أوباما إلى حقيقة أن حزبه قد شهد العديد من الانتكاسات تلتها فترات ازدهار وانتعاش. وقال أوباما في هذا الصدد “إن العديد من العاملين ضمن طاقمي هم من الشباب لذلك لا يتذكرون هذا. إنهم يتذكرون خطابي في التجمع الذي انعقد في مدينة بوسطن سنة 2004 لأنهم قاموا بتحميله على يوتيوب أو غيره من المواقع. ولكنهم لم يشهدوا الانتخابات التي خسر فيها جون كيري وأعيد من خلالها انتخاب جورج بوش، كما تمت هزيمة الزعيم الديمقراطي في مجلس الشيوخ، توم داشل، وحل محله زعيم جمهوري. كانت أغلبية مجلس النواب من الجمهوريين، كنت أنا وكين سالازار م نولاية كولورادو الممثلين الوحيدين للديمقراطيين داخل البيت الأبيض. تلك الفترة شبيهة بما نمر به الآن، وبعد سنتين استرجع الديمقراطيون مكانتهم داخل مجلس الشيوخ وأعتقد أيضا أنهم فازوا بمجلس النواب، وبعد أربعة سنوات انتُخبت كرئيسٍ للولايات المتحدة الأمريكيةٍ”.

وأضاف أوباما قائلا “إن هذا الاعتقاد هو ما يجعل الحزب لا يستسلم، فالحزب مر بالعديد من الأوقات العصيبة ويظل هذا الاعتقاد أفضل بكثير من مجرد القول أننا خسرنا وانتهى كل شيء. الآن يجب علينا إعادة ترتيب أوراقنا والعمل بأفضل الطرق. علينا التوقف عن الاعتماد على إستراتجية ضيقة الأبعاد تستقطب نسبة محدودة من المقبلين على الحزب، إذا أردنا أن نحكم ..”

وبغض النظر عن نتائج هذه الانتخابات، الديمقراطيون في وضع جيد يسمح لهم بمواصلة الفوز في الانتخابات الرئاسية فقط من خلال مناشدة القاعدة الانتخابية، والتي تتميز بالتغير الديمغرافي كل سنة”، ولتوضيح كلام باراك أوباما أكثر، يجدر بنا الإشارة لحقيقة أن نسبة السكان من غير البيض في تزايد.

كما أشار باراك أوباما إلى أنه “ما دام عدد أعضاء مجلس الشيوخ الذين يمثلون ولايتي كاليفورنيا يساوي ولاية ووايومنغ فالمشكلة قائمة، إلا إذا كنا قادرين على فتح قنوات الحوار مع المواطنين الذين هجروا صناديق الاقتراع وحثهم على التصويت من أجل سياسات جديدة تقدمية ومرشحين يتبنون هذا المشروع… كل هذا يتطلب منا حماية مكاسبنا التي حققناها، ولكن أيضا يحتاج منا إلي قدر من رباطة الجأش والهدوء الهادف والتفاؤل – من دون أن ننسى أهمية الحس الفكاهي خاصة بعد تلقينا لنتائج مثل التي تلقيناه للتو، بهذا الشكل كسب الطرف الآخر السباق”.

قبل فترة طويلة من الانتخابات، قامت السيناتور والمساعدة الأولى للرئيس باراك أوباما، فاليري جاريت، والتي تربطها علاقة متينة به، بطرح السؤال التالي عليه “ألا تتمنى أحيانا أن تترشح لولاية أخرى؟ أنا متأكدة أنك سوف تفوز ولا زال الكثير بإمكانك القيام به”.

ولكن لا رغبة لأوباما في التخلي على التعديل الثاني والعشرين من الدستور، فقال أوباما “لقد قلت لها لا لأنه في مرحلة ما تفقد الاتصال مع من حولك. وجودك في هذا المكتب يثقل كاهلك وتكتسب عادات سيئة، كما أخبرتها أننا لا يفترض بنا أن نكون هنا، بالنسبة لنا لقد حضينا بفرصتنا وأحدثنا العديد من التغيرات على الرغم من أننا تمنينا أن نحدث تغيرات أكثر بكثير مما أنجزنا، ولكن يبقى ما حققناه رائعا”.

ستطرح في فترة ترامب الرئاسية بعض الأسئلة البديهية، من هو قائد المعارضة في الحزب الديمقراطي؟ ماذا لو كانت هنالك أحداث عنف عنصرية؟ هل سيعتمد على ناطق باسمه، يكون صوتا أكثر أخلاقية منه؟ بسبب متطلبات الانتقال وتقاليد الخطابة يبدو أن أوباما لا يرغب في التطرق إلى هذا الموضوع، ولكن على الأقل فهو يرى كرسي الرئاسة أقل إشراقا، فقال: “أعتقد أنه لو فازت هيلاري كلينتون لسلمت المفاتيح بيسر لأن حقائب الأوراق منظمة في مكانها. أما الآن فأعتقد أنه تقع علي بعض المسئوليات على الأقل في تقديم النصح لمن سيواصل من بعدي حول مساهمة للحزب الديمقراطي في إعادة البناء، وكيف يمكن لأحزاب الدول المتقدمة أن تعمل مع بعض”.

انتصر ترامب في المناطق الريفية من خلال دعم سياسة وقف شعور العداء للمناطق الحضرية والساحلية، كما يرفض أوباما حتى الآن أن يعترف بأن الجمهوريين قد فهموا مشكلة عدم المساواة، فقال :”لا يهتم الجمهوريون بهذه المشكلة، فلا ملامح تؤكد أنهم يعملون على تجاوزها، ولن يقدموا أي مقترح يقلص من عدم المساواة في الكونغرس… ما أجعل نفسي مهتما به وما سيهتم به الحزب الديمقراطي هو حقيقة تلاقي العولمة والتكنولوجيا، والفجوة الكبيرة التي تتسع الآن بين الأغنياء والفقراء، وعدم تطابق القوى بين الرأسمالية والقوى العاملة، وهذا صحيح في العموم”.

وقال أوباما “بعض العلاجات التي يوفرها البعض، مثل وقف التجارة العالمية وتخفيض الاندماج العالمي، لا أظن أنها ستؤتي أكلها، وإن لم ينجح هذا فسنعمل على إعادة تشكيل التأثير الاجتماعي بشكل جذري خلال العشرين سنة القادمة. وأنا أعلم كيف أبني جسرا نحو هذا التأثير الاجتماعي الجديد، ستكون البداية من كل الأشياء التي تحدثنا عنها في الماضي، مثل تعليم الصغار في وقت مبكر، مواصلة التعليم، التدريب الوظيفي، شبكة الأمان الاجتماعي الأساسية، توسيع الائتمان الضريبي على الدخل المكتسب، الاستثمار في البنى التحتية – والتي هي للتذكير مشكلات لم تأتينا من الخارج”.

وأكمل قائلا: “كل هذه الأشياء تسرع في النمو، وتمنح مدارجا للصعود إلى الأعلى، ولكن المشكل ليس في أوبر ولكن في أوبر ذاتية القيادة، عندما يصبح موظف الأشعة عاطلا عن العمل لصالح الذكاء الصناعي إذا علينا أن نعرف كيف نحافظ على التماسك الاجتماعي والديمقراطي، حيث خلق الثروة غير مرتبط بشكل مباشر بعدد الساعات التي تمضيها في عمل ما، حيث يكسر الرابط بين الإنتاجية وتوزيع الثروة بنحو ما. لأنني أستطيع أن أجلس في مكتبي وأقوم ببعض المهام ثم أرسلها عبر الانترنت فأكون قد كسبت بعض الملايين من الدولارات، بينما الشخص الذي يعتني بأبنائي خلال إنجازي لتلك المهام لا يكسب أكثر من عشر دولارات في الساعة”.

ذلك الشعور بوجود عمل يجب أن ينجز على المستوى السياسي والاجتماعي، عند قوله (“أعلم كيف أبني جسر التأثير الاجتماعي”) غرس الدور الذي يقوم به الرئيس السابق والذي رسمه لنفسه. قائلا: “سيكون عمري 55 سنة عندما أغادر مكتب الرئاسة، آملا أن أتمتع ببعض السنين من الصحة الجيدة، أكون على الأقل حينها أنا وميشال نفكر في بناء محطات وشبكات للقطار والطاقة تكون محفزا للقيادة القادمة”.

وقال: “وأعتقد أنه مهما أخذ مركزي الرئاسي من إطار فإني سأبقى أقل اهتماما بإنشاء حملة من الملصقات الدعائية للترويج لفساتين ميشال، على الرغم من اعتقادي أن فساتين زوجتي ستكون الأفضل بفارق كبير، ولكن ما سأكون مهتما به هو وضع برمجة تساعد في بناء شخصية القيادات المقبلة لهذه البلاد، تلك القيادات التي هي جالسة الآن تفكر في كيفية جعل أفكارها حية، لم أحدد ماذا سأفعل – من أجل توفير موارد وسبل للتفكير في التحول الاجتماعي”.

بدا وكأنه يعود بالذاكرة إلى الأيام التي كان يعمل فيها على مشروع الإسكان “ألتجالد غردنز”، في الجانب الجنوبي لشيكاغو. ثم أضاف “الأمر الذي لطالما كنت على اقتناع به هو الترابط الموجود في مسيرتي المهنية، والذي يتعلق بكون الناس العاديين قادرين على القيام بأشياء جيدة إذا ما أوْلوا اهتمامًا وإذا ما عرفوا القوى المؤثرة في حياتهم”.

كل الفترات الرئاسية السابقة تتميز بوجود مذكرات للرؤساء، الأمر الذي اعتبره أوباما مغيظا، حيث قال “ملاحظتي حول قراءة المذكرات الرئاسية هي أنها مليئة “بثُم حدث هذا، ثم حدث ذلك”. وقال إنه لم يتمكن من ترك مذكراته في البيت الأبيض وأبدى تعجبه من تمكّن جيمي كارتر “من وصف ما يحصل بصفة يومية، ما الذي تناوله على الإفطار؛ وما الذي حصل هنا وما الذي حصل هناك”. وقال أوباما، أيضا، إنه لا يمكن أن يكون حرا مجددا، كما كان عندما ألّف كتاب “أحلام من أبي”. ثم أضاف أوباما “إن الأمر يتعلق باللياقة، فإن كانت لك لقاءات مع أناس تم إخبارهم أن تلك اللقاءات سرية، فلا يُعقل أن يكتب عنها في المذكرات”.

بعد الساعة الرابعة، وبعد ساعتين من الحوار، آن وقت رحيل أوباما، فهو عادة ما يأخذ قسطا من الراحة خلال عطلة نهاية الأسبوع ويلعب رياضة الغولف يومي السبت والأحد، ثم سيغادر في رحلة إلى أوروبا وأمريكا الجنوبية يوم الاثنين

خلال فترة رئاسته، أدرك أوباما أن مهمته تتمثل في مواصلة طمأنة الجميع ومواصلة نفي احتمال انتهاء العالم، تماما كما كان يفعل مع موظفيه. وهذا الأمر يتطلب جهدا، خاصة وأن الفريق الانتقالي للرئيس الذي سبقه كان قد أبدى علامات وجود صراعات داخلية فوضوية وعلامات تفضيل لعدد من الرجعيين، ومنكري وجود ظاهرة تغير المناخ، وقادة التطرف اليميني.

خلال رحلته إلى أوروبا، ستكون أول محطة لأوباما في أثينا، حيث سيلقي خطابا حول الشعبوية والقومية والعولمة والقبلية. وسيتحدث أوباما أيضا، بشكل ضمني، عن فوز دونالد ترامب الذي قد لا تُحمد عقباه.

خلال خروجي من بوابات البيض الأبيض، فكرت في صباح أرلينغتون. فقد كان الطقس مشمسا وباردا وكانت الأوراق الجافة منتشرة. جعلني هذا الطقس أتذكر يوم الانتخابات منذ ثمان سنوات في شيكاغو. وكان أوباما حينها قد أدلى بصوته بالقرب من منزله، على الجهة الجنوبية من الولاية، وأُعْلن عن انتصاره، في تلك الليلة، بينما كان محاطا بزوجته وبناته في “غراند بارك”. وفي خطاب له أمام قرابة ربع مليون شخص، قال أوباما “على الرغم من أن الحزب الديمقراطي حقق نصرا عظيما الليلة، فإننا نستقبل هذا الانتصار بقدر من التواضع والتصميم على إنقاذ البلاد من الانقسامات”. ثم استشهد بكلمات أبراهام لينكولن التي ألقاها على أمة أكثر انقساما منا، قائلا “نحن لسنا أعداء، بل نحن أصدقاء، ربما انعدمت العاطفة، لكن لا يجب أن ندع ذلك الأمر يكسر أواصر محبتنا”.

أخذ أوباما الذي بدت عليه مظاهر الكبر في السن، إكليلا من الزهور لوضعها على قبر الجندي المجهول في أرلينغتون، قائلا “هذا قبر جندي أمريكي لا يعرفه إلا الله”. وتذكرت في تلك اللحظة أن ترامب سيكون في نفس المكان في السنة المقبلة. سيكون دونالد ترامب، الذي كان مقدم البرنامج الترفيهي “سيلبريتي أبرانتس” وصاحب جامعة ترامب، في غرفة علميات البيت الأبيض، وفي “10، داوننغ ستريت” وفي قصر “الإليزيه”.

خلال ذلك الخطاب الذي ألقاه أوباما في أرلينغتون ذلك الصباح، تمكن أوباما من إيصال رسالة سياسية. وهذه المرة، تعدت هذه الرسالة مجرد الدعوة إلى عملية انتقالية منظمة، بل ألقى “أنشودة نصر” حول قيم كان ترامب قد رفضها في عديد الأحيان، حيث قال أوباما “إن يوم المحاربين القدامى عادة ما يتبع حملة سياسية مشحونة وتمرينا في حرية التعبير والحكم الذاتي الذي حاربتُ من أجله. وغالبا ما تفضح هذه الحملات عددا من الخلافات في أمتنا. لكن الغريزة الأمريكية تتمكن من إيجاد عقيدة مشتركة وتحقيق الوحدة من خلال التنوع الموجود في بلادنا، والحفاظ على هذه القوة والوحدة. هذا مثال على المؤسسة الأكثر تنوعا في بلادنا: بحارة وطيارون ومشاة وجنود يمثلون كل ركن من حياتنا، كلهم تحت ظل الإنسانية، منهم مهاجرون ومنهم أمريكيون ومنهم مسيحيون ومسلمون ويهود وملحدون، كل هؤلاء في خدمة واحدة مشتركة”.

أعطت إيقاعاته الرصينة صدى لكلماته التي كان يمكن أن تكون مجرد خطاب روتيني. كانت هنالك رؤية أمل في وجود تنوع وكرامة، وسماع كلماته هذه ذكّرني في خطاب الفوز الذي ألقاه قبل ثماني سنوات، والذي قال فيه “إن كان هناك أي شخص يشك أن الولايات المتحدة هي مكانٌ كل شيء فيه ممكن، هذه الليلة هي الإجابة لكل الشكوك”. وحصلنا على إجابة مختلفة جدا خلال يوم الانتخابات هذا. بالفعل، إن الولايات المتحدة مكان كل شيء فيه ممكن: ذلك هو وعدها الأعظم وأكبر مخاطرها.

المصدر

https://www.noonpost.net/content/15438

الدولة العميقة في الولايات المتحدة

تأليف: مايك لوفغرين

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

يتكرر مصطلح الدولة العميقة في عدد من الدول، وربما يكون تأثيرها محصوراً في الدولة التي تديرها في الخفاء، إلا أنه في الولايات المتحدة تلعب الدولة العميقة دوراً كبيراً، يمتد إلى كافة أنحاء العالم بطرق مختلفة. استخدمت هذه «الدولة» التي تشكل النخبة الثرية عمودها الفقري، النظام السياسي الأمريكي في خدمة مصالحها، وحوّلت الديمقراطية إلى بلوتوقراطية، وبحجة الحرب على الإرهاب عسكرت السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فخلفت الضحايا والكوارث في الداخل والخارج. يحاول مؤلف هذا العمل الكاتب مايك لوفغرين بحكم عمله ثمانية وعشرين عاماً في الكونغرس أن يسلط الضوء على الممارسات الخاطئة في السياسة الأمريكية، وكيف يتم استخدام القانون لحماية الشركات والمجمعات العسكرية والصناعية والاستخباراتية والإعلامية، ويوجّه في الوقت ذاته نداء تحذير إلى الطبقة السياسة والشعب الأمريكي، ويدعو إلى إجراء إصلاحات جذرية رغم صعوبتها البالغة.

يحتوي الكتاب الصادر عن دار «بينغوين بوكس» العالمية في 310 صفحات من القطع المتوسط على 15 فصلاً بعد التمهيد والمقدمة، يتناول فيه الكاتب العديد من القضايا المتعلقة بالنظام السياسي الأمريكي، والفساد الذي يتغلغل في مفاصله، ويقول في تمهيده: «يمكن أن تمتلك التراكيب الرسمية للأنظمة السياسية عمراً طويلاً بشكل يثير الدهشة. دستور الولايات المتحدة الأمريكية أصبح عمره الآن قرنين وربع القرن، فهو يعد الدستور الوطني الأقدم قيد الاستخدام المستمر على مستوى العالم. ما يتغير هو الطريقة غير الرسمية التي تتطور فيها الأنظمة السياسية حتى عندما تبقي على الشكل الظاهري الذي ورثته».

ويضيف: «توقع توماس جيفرسون أن تكون بلادنا كجمهورية فاضلة من المزارعين، لكن في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، مهدت رؤيته الطريق إلى بلوتوقراطية العصر الذهبي التي أدار فيها الأثرياء مثل جون د.روكيفيلر وج.ب. مورغان المشرعين والمحاكم كما لو أنها فروع تتبع شركاتهم. استغرق الأمر جهود ما يقارب عقداً من الزمن لدى التقدميين حتى استعادوا بعض معايير السيادة الوطنية».

ويشير إلى أنه «بعد انهيار وول ستريت في 1929، أطلق البرنامج الاقتصادي»الصفقة الجديدة «ما سماه البعض ثورة أمريكية ثانية، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة تشبه الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية. لكن في أعقاب الصدمة النفطية والركود الاقتصادي في سنوات السبعينات من القرن الماضي، بدأت البلاد تنزلق إلى أوليغارشية (حكم الأقلية) فعلية مموهة بمنافسة بين حزبين داخل الشكل الظاهري للحكومة الدستورية».

مناخ سياسي مضطرب

يذكر المؤلف أنه خلال السنة الأخيرة وصلت الولايات المتحدة مجدداً إلى نقطة الانحراف، حيث كان المناخ السياسي المضطرب يسيطر عليها منذ أواخر ستينات القرن الماضي. ويعلق: «النخب السياسية تتحكم بحزبينا الرئيسيين، وأصحاب المليارات من خلفهم سبق وأن استقروا على خيار ثنائي بسيط لأجل رئيس للشعب الأمريكي: جيب بوش (المرشح الجمهوري حالياً هو دونالد ترامب) وهيلاري كلينتون. كانا من الصقور وصديقين لوول ستريت، حيث أفراد من عائلتهما سبق وأن شغلوا مواقع في السلطة سواء في الرئاسة أو نواب للرؤساء لما يقارب ثلاثة عقود. هذه هي ممارسة الديمقراطية – الأسلوب الأمريكي – التي انحدرت إلى: الخيار بين البيبسي والكوكا كولا، وما يقوم به الناخبون هو الإدلاء بأصواتهم لصالح أحدهما اللذين سبق وأن تم اختيارهما».

ويضيف: «عندما تنحت هيلاري كلينتون عن منصب وزير الخارجية في فبراير 2013، كانت المرشحة الأوفر حظاً في سباق الترشيح الديمقراطي لحملة الانتخابات الرئاسية في 2016. هي وزوجها هاجما وول ستريت وسيليكون فالي وكل مكان للأثرياء لجمع الأموال، وفرض التأثير، وجعلهم يدفعون فواتير الحساب. كان مجموعة من رفاق الحزب يديرون كل حركة لها، وهم أنفسهم الذين هيمنوا على إدارة زوجها، وشكلوا الآن حملة مربحة جداً بدعم من المجمع الصناعي العسكري». ويبين أن قواعد اللعبة بين الجمهوريين والديمقراطيين باتت واضحة، وينتقد الديمقراطيين على أنه بالنسبة لهم القضايا الاقتصادية تبقى في مربع وول ستريت، والسياسة الخارجية تركز على مجد قتل أسامة بن لادن أو عار بنغازي، وليس هناك من أمل لإصلاح الشرق الأوسط بالقوة العسكرية.

يذكر الكاتب أن الظروف الاجتماعية نفسها التي تبنتها الدولة العميقة بدأت تضعف اللامبالاة الشعبية وحالة عدم الاكتراث التي كانت السر لهيمنتها. كما أن التوزيع غير المتساوي كثيراً للدخل ما قبل انهيار 1929، بات واضحاً أكثر من أي وقت، فقد أصبحت الطبقة الوسطى أقلية سكانية في البلاد التي دعت لتأسيس طبقة وسطى عريضة.

صعود ترامب

يتطرق الكاتب إلى العوامل التي ساعدت المرشح الجمهوري إلى الرئاسة الأمريكية دونالد ترامب على الصعود بين المرشحين الجمهوريين، ومنها ما هو متعلق بارتباطاته مع مجمع الترفيه – الإعلام في الولايات المتحدة، على الرغم من أن الكثير من أعضاء حزبه عبروا عن استيائهم من هذه الشخصية، لكن رغم ذلك، فقد دعم الحزب الجمهوري ترامب، الذي يربطه مع مجمع الأمن القومي للدولة العميقة أصول عائلية. ويوضح أن السياسيين والجنرالات ومديري ال«سي آي إي»، ومخضرمي النخبة الفكرية و«خبراء» الإرهاب كانوا يغذون رسالة الخوف في رؤوس الأمريكيين لعقد ونصف، وهذه الديناميكية التي لجؤوا إليها تساعد على توضيح السبب الذي دفع ترشيح ترامب إلى الانطلاق بسرعة عالية في نوفمبر وديسمبر 2015، فترة الهجمات الإرهابية في باريس وحالات القتل في سان برناردينو في ولاية كاليفورنيا، حيث حمّس مسؤولو الحكومة والإعلام المزاج الشعبي في البلاد التي اقتربت من درجة الهستيريا، وتمكن ترامب بشكل حذق من استغلال المزاج العام لصالحه، من خلال استخدام كلمات عنصرية بذيئة ولغة انتقامية يحرك بها القلاقل الثقافية والعرقية.

ويعلق على ذلك: «الناخبون في الحزب الجمهوري في ساوث كارولاينا الذين سلموا ترامب انتصاراً سهلاً، أعلنوا أن الإرهاب هو قلقهم الأكبر، والذي غطى على الاقتصاد المتهاوي والأجور المنخفضة، وانهيار مستوى المعيشة الذي قاد إلى زيادة فعلية في نسب الوفاة بين متوسطي الأعمار، فضلاً عن زيادة عدد البيض الذين لم يدخلوا الكليات، والغلاء في الرعاية الصحية، وقلة توافرها بشكل جيد في العالم «المتقدم». بالتالي يمكن القول إن مهارات ترامب الغوغائية وضعته في موقع أفضل بكثير من خصومه لاستغلال العصاب الوطني الذي خلقته الحرب على الإرهاب بحسب تعبير الكاتب.

في رأي المؤلف، لا يمكن للانتخابات أن تحل المآزق الأساسية في قلب الدولة العميقة معلقاً: «الدرجات العميقة من اللامساواة في الدخل، وهيمنة المال، سواء في انتخاباتنا أو عند سنّ القوانين، والإدمان على الحروب الأبدية لم تكن لتترسخ من دون تعزيز الخوف والاستياء الثقافي. هذه الشرور لا يمكن أن تصبح بعيدة عنا في فترة رئاسة واحدة، حتى وإن كان الرئيس يمتلك حكم الأقدمين، إلا أنه لا يمكن إزالتها عن طريق غوغائية متكبرة تمتلك علاقة مشحونة مع الحقائق والمنطق. إن استعادة الولايات المتحدة كدولة ترقى إلى مثلها العليا سيكون تدريجياً، وتقع مسؤوليته على عاتق جيل جديد متحرر لا يعيش تحت ثقافة الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في السنوات الخمسين الأخيرة، ولا يخضع للعقيدة الأمنية الوطنية لكبارها أو العقيدة الاقتصادية الممزقة».

تجاوز أساطير النخبة

يشير الكاتب إلى أن هناك استراتيجية بديلة لتلك المستخدمة في العادة من قبل القوى الكبرى أثناء الأزمات. احتضنتها إلى درجة كبيرة، ومع أهداف مختلفة، شخصيات سياسية متناقضة مثل مصطفى كمال أتاتورك، وفرانكلين روزفلت، وشارل ديغول ودينغ شياو بينغ. لم يكن هؤلاء ثوريون بطبيعتهم، بل كانوا محافظين. لكنهم فهموا أن الثقافات السياسية التي كانوا يعملون فيها تتسم بالتحجر، ولا يمكن أن تتكيف مع كل الأوقات. وفي مسعاهم إلى الإصلاح وتحديث الأنظمة السياسية التي ورثوها، كانت عوائقهم الأولى التي يترتب تجاوزها هي الأساطير البالية التي هيمنت على تفكير النخبة.

ويضيف: «في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة مستقبلها بعد تجربة حربين فاشلتين، وانهيار مالي و19 تريليون دولار من الديون المتراكمة، انقسمت النخبة الاستشارية والثقافية إلى معسكرين: الأول يرى أن النظام السياسي المختل والمتهاوي غير قادر على الإصلاح، وستتجاوزهم الصين اقتصادياً في وقت قريب. ويعد جورج باكر الكاتب في صحيفة «نيويوركر» أحد هذه الأصوات، والذي يرى أن إخلال الطبقة القيادية في الولايات المتحدة بالاتفاق الاجتماعي الضمني قبل أكثر من ثلاثة عقود كانت بداية لعملية «تفكك» كبيرة وضعت البلاد على مسار يتجه نحو الانحدار. أما المعسكر الآخر، فهو الإصلاحي، الذي يؤمن بوفرة الحلول الفردية الزائفة للالتفاف حول الدولة: الإصلاح الانتخابي، والإصلاح العسكري، وغيرها، من دون أن يكون هناك أي توقع حقيقي لسنهم أي قانون فعلي يدفع نحو الإصلاح».

ويقول: «بعد الحرب الأهلية، كان النظام السياسي الأمريكي مغلقاً، ويعيش حالة من الانحدار كما هو الآن. فالشركات كانت تتحكم بالسلطة التشريعية، وتحصل على ما تريد. كان الأمر في عام 1880، في ذروة العصر الذهبي».

ويرى الكاتب أن الأمريكيين أظهروا في الماضي أن إصلاح النظام السياسي الأمريكي، في الوقت الذي كان على الأرجح أمراً صعباً ومطولاً (ربما يحتاج إلى عقود لإنجازه)، لم يكن أمراً مستحيلاً. كما أن تسريبات سنودين، التي كان تأثيرها قوياً بشكل مفاجئ، فضلاً عن مسألة التدخل العسكري في سوريا، وإرباكات الكونغرس التي بدأت تسبب الإزعاج للدولة العميقة، وكذلك المستوى العالي لعدم الرضى الشعبي حيال الواقع السياسي، يظهر أن هناك جوا عميقا نحو التغيير.

دعوة إلى الإصلاح

يقدم مايك لوفغرين في نهاية عمله مجموعة من الإصلاحات التي يمكن أن تبدأ بإيقاف الاختلالات في النظام السياسي الأمريكي، وتضع الولايات المتحدة في مسار صحيح وهي: أولاً، إزالة المال الخاص من الانتخابات العامة. ثانياً، إعادة نشر الجيش بشكل معقول وتخفيض نفوذ المجمع الاستخباراتي – العسكري، من خلال إزالة مئات القواعد العسكرية خارج الولايات المتحدة، خاصة أنها تنفق سنوياً ملايين الدولارات. ثالثاً، البقاء خارج الشرق الأوسط، فكل قضية تدخلت فيها الولايات المتحدة في هذه الرقعة الساخنة من العالم أصبحت أسوأ، وصنعت حاضنات للتطرف من خلال تفتيت الدول، كما حدث في العراق. رابعاً، إعادة توجيه عوائد السلام إلى تحسين البنية التحتية المحلية. خامساً، البدء في تطبيق قانون مكافحة الاحتكار مجدداً. سادساً، إصلاح سياسة الضرائب. سابعاً، إصلاح سياسة الهجرة. ثامناً، تبني نظام رعاية صحية تقوم فيه الدولة بدفع كل التكاليف. تاسعاً، إلغاء الحالة الشخصية للشركات أو معاملتها تماماً مثل الأشخاص، خاصة أن الشركات تلعب دوراً كبيراً في الرشوة السياسية، وبحماية قانونية.

ويعلق الكاتب على هذه الإصلاحات التي اقترحها: «ما اقترحته يبدو خيالياً، بل حتى ساذجاً، إلا أن الولايات المتحدة أنجزت أشياء أكثر إدهاشاً في تاريخها.

وكانت واحدة من الأحداث التي عاصرتها في حياتي هي الانهيار السريع للاتحاد السوفييتي وإمبراطوريته في أوروبا الشرقية. الرجال الحكماء في واشنطن، بوب غيتس وبقية المقربين منه، اصطنعوا نظاماً سياسياً بارداً كالثلج وقاسياً كالفولاذ. ومع ذلك فقد تفتت، ليس بسبب القوة العسكرية، أو الثورة العنيفة، بل بسبب الناس الذي عاشوا في ظله وتحملوا أعباءه، وتخلوا ببساطة عن الإيمان بأساطيرهم.

الولايات المتحدة في حالة أفضل مما كان عليه الاتحاد السوفييتي في وقت مضى، على الرغم من أخطائنا المؤسسية وازدياد الأساطير الإيديولوجية التي أضعفت قدرتنا على رؤية العالم كما هو، والعيش بسلام ووئام ضمنه. الطريق إلى أمريكا أفضل، سوف يأتي بشكل مدهش وسهل عندما نعيد صياغة ما قاله أبراهام لينكولن، «نحرّر أنفسنا من الأساطير المهترئة والمخاوف التي تكمن وراءها».

المصدر:

http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/4dcb320c-ccf5-4cec-8175-0fc629f51c57#sthash.jy9Az9fd.dpuf

الصحافة الأميركية في عهد ترامب تواجه “خطراً وجودياً”!

الصحافة الأميركية في عهد ترامب تواجه “خطراً وجودياً”!

بقلم: كريستيان أمانبور

لم يخطر في بالي على الإطلاق أنه سيأتي يوم أقف فيه على المنبر للدفاع عن حرية الصحافيين الأميركيين وسلامتهم في بلادهم.

حضرات السيدات والسادة، يذكّرنا الكلام الصادر عن (الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب) الذي ورد في شريط الفيديو بالخطر الذي نواجهه. في الواقع كنت آمل بأن يتغير ذلك كله بعدما أصبح رئيساً منتخبا، وما زلت آمل بأن يتحقق ذلك. لكنني شعرت بالقشعريرة عندما تحدّث في تغريدته الأولى بعد الانتخابات عن “متظاهرين محترفين يتحرّكون بتحريض من الإعلام”.

لقد تراجع لاحقاً عن الجزء المتعلق بالمتظاهرين، لكنه لم يتراجع عن الجزء المتعلق بالإعلام. لم نبلغ تلك المرحلة بعد، لكن هكذا يتصرّف السلطويون أمثال السيسي وأردوغان وبوتين والملالي والرئيس الفيليبيني رودريغو دوتيرتي وسواهم.

جميع الصحافيين الدوليين الذين نكرّمهم في هذه الغرفة الليلة وفي كل عام، يدركون جيداً ما يجري عادة: أولاً يُتَّهم الإعلام بالتحريض، ثم بالتعاطف، وبعدها بالتواطؤ – إلى أن يجد الإعلاميون أنفسهم فجأة متّهمين بأنهم إرهابيون ومخرِّبون بكل ما للكلمة من معنى. وينتهي بهم الأمر مكبَّلين بالأغلال، في الحجز وأمام قوس المحاكم الصورية وفي السجون – ثم من يدري ما قد يحصل؟

لقد قال أردوغان للتو لزميلتي الإسرائيلية إيلانا دايان إنه لا يفهم لماذا هناك مَن يتظاهر في أميركا، فهذا يعني برأيه أنهم لا يقبلون – أو لا يفهمون – الديموقراطية! وهو يعتقد أن أميركا تحتاج، شأنها في ذلك شأن جميع البلدان العظمى، إلى رجل قوي من أجل تحقيق الإنجازات!

نداء لحماية الصحافة

كي تكون أميركا عظيمة، تحتاج إلى صحافة عظيمة تنعم بالحرية والأمان. إذاً، كلمتي هذه هي قبل كل شيء نداء لحماية الصحافة في ذاتها.

التزِموا من جديد بإعداد تقارير راسخة تستند إلى الوقائع من دون خوف أو محاباة. لا تقفوا مكتوفي الأيدي فيما تُنعَتون بالمخادعين أو الكاذبين أو الفاشلين. بل تكاتفوا – لأنه إذا انقسمنا فسوف يكون مصيرنا جميعاً السقوط.

قال لي المؤرخ سيمون شاما إنها ليست مجرد جولة انتخابية أخرى، ولا يمكننا التعامل معها على هذا الأساس. ويلفت إلى أنه الوقت الأنسب الآن للاحتفاء بحرية الصحافة وتكريمها وحمايتها والتحرك من أجلها.

في مستهل الحملة الانتخابية، قال رئيس إحدى الشبكات الإخبارية إن هذه الظاهرة قد لا تكون جيدة لأميركا، لكنها جيدة جداً لنا. خلال مقابلة أجريتها عبر برنامجي، الصيف الفائت، سألني المخرج والمؤرّخ كين بورنز ماذا كان الإعلامي الأميركي إدواردر. مورو ليفعل؟

أولاً، على غرار كثر يراقبون من الخارج، أقرّ بأنني صُدِمت بالمعايير العالية إلى درجة استثنائية التي فرِضَت على أحد المرشحَين في مقابل المعايير المنخفضة إلى درجة استثنائية التي فرِضَت على المرشح الثاني.

بدا وكأن الجزء الأكبر من وسائل الإعلام وقع في التشوش والارتباك في محاولته التمييز بين التوازن والموضوعية والحياد، والأهم من ذلك كله، الحقيقة.

لا يمكننا مواصلة النموذج القديم – كما في حالة الاحتباس الحراري مثلاً – حيث يُمنَح 99.9 في المئة من الأدلة العلمية المثبَتة بالتجربة حيّزاً مساوياً لذاك الذي يُمنَح لأقلية ضئيلة من مُنكري الاحتباس الحراري.

لقد تعلمت قبل وقت طويل، خلال تغطية التطهير العرقي والإبادة في البوسنة، أنه لا يجب أبداً مساواة الضحية بالمعتدي، ولا إقامة تكافؤ خاطئ في الأخلاق أو الوقائع، لأنك تصبح عندئذٍ متواطئاً في الجرائم والتداعيات الشديدة الفظاعة.

 

 

كفى تسخيفاً للحقيقة

أؤمن بأنه يجب أن نكون أمناء للحقيقة، لا محايدين. وأؤمن بأنه علينا أن نكف عن تسخيف الحقيقة. وعلينا أن نكون مستعدّين للنضال بقوة من أجل الحقيقة في عالمٍ حيث أعلن قاموس “أكسفورد” للغة الإنكليزية أن كلمة العام 2016 هي “ما بعد الحقيقة post-truth  “

يجب أن نقرّ بأن وسائل التواصل الاجتماعي التي أذعنّا لها صاغرين تفوّقت علينا.

لقد قام المرشح الفائز بمناورة ذكية للالتفاف علينا وتوجَّه مباشرة نحو الشعب. يُضاف إلى ذلك التطور الأكثر إثارة للذهول والمتمثل في تسونامي المواقع الإخبارية المزيّفة – أي الكاذبة – التي لم يستطع الناس بطريقة ما التعرف عليها أو التأكد من صحتها أو تجاهلها.

يقول أحد الكتّاب الأساسيين لهذه المقالات المزيّفة – هذه الأكاذيب – إن الناس يزدادون غباء، فينشرون تقارير خاطئة من دون التأكّد من صحتها. علينا أن نسأل إذا كانت التكنولوجيا قد تفوّقت في سرعتها على قدرتنا البشرية على مواكبتها. وينبغي على المعلِنين مقاطعة المواقع التي تلجأ إلى الأكاذيب. هل يواجه الصحافيون “خطرا وجوديا”؟

يقول وائل غنيم، أحد آباء “الربيع العربي” المسمّى ثورة وسائل التواصل الاجتماعي: “الوسيلة نفسها التي تنقل بفاعلية شديدة رسالة تغيير صارخة يبدو أنها تقوّض أيضاً القدرة على تحقيق التغيير. تضخم وسائل التواصل الاجتماعي النزعة البشرية إلى إقامة روابط مع الجنس البشري. وتميل إلى تقليص التحديات الاجتماعية المعقدة وتحويلها إلى شعارات تعبوية يُردّدها كما الصدى الأشخاص الذين يتماهون في تفكيرهم، بدلاً من الانخراط في الإقناع والحوار والتوصّل إلى إجماع. يَظهر خطاب الكراهية والأكاذيب إلى جانب النيات الصادقة والحقائق”.

أشعر بأننا نواجه أزمة وجودية تشكّل تهديداً لمعنى مهنتنا وفائدتها.

الآن أكثر من أي وقت آخر، علينا أن نلتزم بإعداد تقارير حقيقية وسط أمةٍ حقيقية وفي مختلف أنحاء عالمٍ حقيقي حيث تواجه الصحافة والديموقراطية خطراً قاتلاً، بما في ذلك من القوى الأجنبية على غرار روسيا التي تدفع المال لتلفيق أخبار كاذبة ونشرها، وتقوم بقرصنة النظم الديموقراطية هنا، وربما في الانتخابات الحاسمة المقبلة في ألمانيا وفرنسا.

سأورد بإيجاز حادثة حصلت معي: في الانتخابات الإيرانية، العام 1997 ، فاز المرشح الإصلاحي، وقد شكّل ذلك صدمة كبيرة لأئمة الإستابلشمنت الذين سألني أحدهم لاحقاً كيف كنت متيقنة إلى هذه الدرجة ومتى عرفت أن خاتمي سيفوز في الانتخابات. فأجبته، ما إن نزلت على الأرض وبدأت أتكلم مع الناس!

مواجهة “عالم ما بعد القيم”

علينا أن نناضل أيضاً ضد عالم ما بعد القيم.

ودعوني أتوقف عند رد الفعل النخبوي الشديد الذي نبذل جميعنا قصارى جهدنا للتكيف معه. منذ متى كانت القيم الأميركية قيماً نخبوية؟ هي ليست قيماً يسارية أو يمينية. ليست قيم الأغنياء أو الفقراء، ولا قيم المنسيّين.

لقد تعلّمتُ، على غرار عدد كبير من الأجانب، أنها قيم كونية. إنها قيم جميع الأميركيين من الأكثر اتضاعاً إلى الأرفع مقاماً. إنها الأساس الجوهري للولايات المتحدة وركيزة القيادة العالمية الأميركية. إنها علامة أميركية مسجّلة. إنها أعظم ما تصدّره أميركا وهديتها الأعظم إلى العالم.

إذاً، نعم، على غرار كثر حول العالم، لقد أصبت بالصدمة – قلّة قليلة تخيّلت أن هذا العدد الكبير من الأميركيين الذين مارسوا واجبهم المقدّس في حرمة غرفة الاقتراع من خلال ورقة الاقتراع السري، يتملّكهم الغضب إلى درجة دفعتهم إلى تجاهل فظاظة اللغة الشديدة، والسلوك الجنسي المفترس، وكره النساء ىالعميق، والآراء المتعصّبة والمهينة.

قال الحاكم ماريو كوومو إنَّ الحملة الانتخابية تشن بواسطة الشعر أما الحكم فيمارس من طريق النثر،لعل العكس سيحدث هذه المرة.

إذا لم يحصل ذلك، سأناضل انطلاقاً من موقعي كصحافية – وهذا ما يجدر بنا جميعاً أن نفعله – للدفاع عن منظومة القيم الفريدة التي تصنع الولايات المتحدة وحمايتها، والتي تسعى بلادنا من خلالها إلى التأثير في العالم.

النضال ضد تطبيع ما هو غير مقبول

يقول المقدّم الإذاعي المحافظ الذي قد يصبح المسؤول الإعلامي العتيد في البيت الأبيض إن وسائل الإعلام الأساسية مناهضة للقيم التقليدية.

أما أنا فأقول إن العكس تماماً هو الصحيح. وهل قرأتم عن الاجتماع الذي أطلِقت فيه هتافات النصر في واشنطن في نهاية الأسبوع الماضي؟ لماذا لا ينشر مزيد من التقارير عن الصعود الخطير لأقصى اليمين هنا وفي أوروبا؟ منذ متى لم يعد عداء السامية محك الاختبار الحاسم في هذه البلاد؟ علينا النضال ضد تطبيع ما هو غير مقبول.

قبل أسبوع من استفتاء “بريكسيت” المحموم في المملكة المتحدة، تعرّضت النائبة البريطانية الجميلة والشابة والمتفائلة والمثالية والشغوفة جو كوكس، التي كانت من المؤيّدين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، لإطلاق نار وطُعِنت حتى الموت على يدَي مهووس راح يهتف “بريطانيا أولاً”. كانت متعاطفة جداً مع محنة اللاجئين السوريين. وقد ذكِر في الإفادات التي أدليت أمام المحكمة أن المتّهم كان قد بحث عن معلومات عن فرق الحماية النازية ومنظمة “كو كلوكس كلان”. قبل بضعة أسابيع فقط، كان زوجها براندون الذي يهتم الآن بتربية طفلَيهما الصغيرين، قد توسّع في حديثه معي عن مقال كتبه: “ينبغي على القادة السياسيين والناس في شكل عام أن يأخذوا على عاتقهم مسؤولية التكلم جهاراً ضد التعصب. إذا لم يقف الوسط في وجه الزحف الغادر للتعصب، يُظهر التاريخ أن الكراهية تسلك سريعاً طريقها نحو التطبيع. فالتزام الصمت بدافع المنفعة السياسية أو بسبب الارتباك الاجتماعي يمكن أن يتحوّل سريعاً تواطؤ مع شيء أسوأ بكثير. وقبل أن نتنبّه للأمر، يكون قد فات الأوان”.

إذاً، لننتقل الآن إلى الحلول.

دور الإعلام في العالم بطريقة ما، يجب أن تنتهي حرب الاستنزاف في هذه البلاد. لقد رأيتم جميعاً نتائج هذه الانتخابات. إنها متقاربة جداً. الأمة شديدة الانقسام، وغاضبة. هل سنستمر في وسائل الإعلام في تأجيج تلك الحرب – أم أننا سنأخذ نفَساً عميقاً وربما نجري إعادة ضبط؟

الأمر مهم أيضاً بالنسبة إلى الخارج. الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، سواء كان ذلك للأفضل أم للأسوأ. وعلى المستوى الثقافي أيضاً. فالنموذج السياسي وكذلك النموذج الإعلامي اللذان نرسم معالمهما هنا سرعان ما يتم التمثل بهما، وينتشران في مختلف أنحاء العالم.

يمكننا نحن الإعلاميين أن نساهم في منظومة أكثر وظيفية أو في تعميق

الخلل السياسي. أيُّ عالمٍ نريد أن نترك لأولادنا؟

لقد حُشِرت السياسة في زوايا حزبية سامّة ومسبِّبة للشلل، حيث تُعتبَر الاختلافات السياسية جريمة، وحيث تعني لعبة الغالب والمغلوب أنه كي أنتصر أنا، يجب أن تُدمَّر أنت. ماذا حلّ بالتسوية والقواسم المشتركة؟

الدينامية نفسها أصابت بعدواها شرائح نافذة في الإعلام الأميركي. تماماً كما حصل في مصر وتركيا وروسيا حيث دُفِع الصحافيون نحو زوايا حزبية سياسية – فجُرِّدوا من الشرعية واتُّهِموا بأنهم أعداء الدولة.

امنعوا استخدام الصحافة سلاحاً

لقد باتت الصحافة في ذاتها تُستخدَم سلاحاً. علينا أن نوقف ذلك. ينتظرنا جميعاً عمل كثير: التقصّي عن الممارسات الخاطئة، ومحاسبة المسؤولين، والمساهمة في نزاهة الحكم، والدفاع عن الحقوق الأساسية، وتغطية أخبار العالم – روسيا، وسوريا، والنووي الكوري الشمالي. ألا يمكن أن تكون هناك خلافات بيننا من دون أن يقضي واحدنا على الآخر؟ فلنناضل في مهنتنا من أجل الحق والصواب.

فلنناضل من أجل قيمنا. تقع أمور سيئة عندما لا يحرّك الأخيار ساكناً. يقول عضو الكونغرس جون لويس، القيادي العظيم في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية: “يقع على عاتق الشباب والأشخاص الذين تخطّوا قليلاً مرحلة الشباب وتفويض تستوجب عليهم التورط في متاعب حميدة”. إذاً واجبٌ أخلاقي ومهمة هيا بنا لنتسبب ببعض المتاعب. وفي شكل خاص، هيا نناضل كي يبقى لمهنتنا معنى وفائدة. بوحي ربما من عطلة نهاية الأسبوع الطويلة، فلنعقد العزم بأننا لن نتخذ خيارات انتحارية مثل ديوكٍ رومية تُصوِّت لعيد الشكر!

الدور الأمريكي .. العائق الأكبر أمام حل الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»

الدور الأمريكي .. العائق الأكبر أمام حل الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»

تأليف: جيرمي آر. هاموند عرض وترجمة: نضال إبراهيم

لماذا ظل السلام في الشرق الأوسط صعب المنال ومراوغاً إلى هذا الحد الكبير؟ ما العقبات الحقيقية أمام إنهاء الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»؟ لماذا يبدو الدور الأمريكي ملتبساً، وسلبياً في كثير من الأحيان؟ لا يقدّم هذا العمل الأجوبة عن هذه الأسئلة فقط، بل يوضّح أيضاً الأسباب التي تمنع المسؤولين الحكوميين الأمريكيين من الإدلاء بآرائهم على وسائل الإعلام الرئيسية التي يجدها مؤلف العمل متواطئة مع الاحتلال «الإسرائيلي». كما يوجه الكاتب جيرمي نداء إلى الأمريكيين للوقوف في وجه تغطية حكومتهم على جرائم ««إسرائيل»» بحق الفلسطينيين.

يوضح جيرمي هاموند في عمله هذا الأحداث الراهنة والعلاقات بين الولايات المتحدة و«إسرائيل»، مبيناً أن العائق الأكبر لعميلة السلام في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» هو الولايات المتحدة. ويركز هاموند على العديد من القضايا بشكل مفصل، خاصة ما يتعلق باللغة المستخدمة والأفعال المنافية لها فيما يتعلق بالدور الأمريكي الداعم ل«إسرائيل»، ويذهب في تحليل عالم اللغة المستخدم في الاتفاقيات المكتوبة أو غيرها، عبر وسائل الإعلام، والخطابات، والأحاديث العامة، كما يتوقف عند بنود القانون الدولي، حيث كل من الولايات المتحدة و«إسرائيل» تبرر أفعالها من خلال القانون الدولي، لكنهما في الحقيقة تفعلان ذلك، من خلال محاولة «إدارة التصورات»، وخلق «روايتهما» الزائفة.

الكتاب صادر حديثاً عن دار نشر «ورلد فيو بابليكيشن» في 538 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على عشرة أقسام، بعد تمهيد بقلم ريتشارد فولك ومقدمة بقلم جين إيبستين، وهي: صعود حماس في غزة، عملية الرصاص المصبوب، عملية السلام، بداية جديدة لأوباما، تقرير غولدستون، الالتزام بالجدية في عملية السلام، قتل في البحار العالية، العلاقة الخاصة، خدعة الدولة، مسألة فلسطين. خاتمة.

أكاذيب وانتهاكات مستمرة

مهد لهذا العمل ريتشارد فولك الذي شغل موقع المقرر الأممي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويقول: «هناك إدراك عام كبير على مستوى العالم أن الدبلوماسية كما تمت ممارستها من ناحية حل الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني لأكثر من عقدين من الزمن، قد فشلت، على الرغم من أن المسألة كانت مشروعاً كبيراً للحكومة الأمريكية على مدى عقدين من الزمن. في الواقع، ما هو أسوأ من الفشل، أن هذه الدبلوماسية القائمة على المماطلة سمحت ل«إسرائيل»، من خلال المواجهة والسرية، أن تسعى من دون هوادة إلى تحقيق رؤيتها في «إسرائيل» الكبرى «تحت غطاء واقٍ وقاس من الدعم الأمريكي. خلال هذه الفترة، أصبح الموقف المحلي الفلسطيني على نحو مستمر يسير نحو الأسوأ. والمحنة الإنسانية للشعب الفلسطيني باتت أسوأ وأكثر حدة من أي وقت مضى».

ويضيف فولك: «إن الاعتراف بهذا الواقع غير المرضي دفع الحكومات الأوروبية بشكل متأخر إلى الشك بإذعانهم للقيادة الأمريكية في حل الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، وأقنع المزيد من الناشطين الاجتماعيين في المجتمع المدني بالولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم إلى الاعتماد على تكتيكات التضامن غير العنيفة مع المقاومة الفلسطينية، وخاصة عن طريق حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي حققت زخماً كبيراً في السنة الماضية، وهي تقترب من نقطة مفصلية يبدو أنها تجعل القادة «الإسرائيليين» في حالة من الانفعال بشكل ملاحظ. كلا التحديين المذكورين للنهج الدبلوماسي لاتفاقية أوسلو مبني على اعتقاد أن «إسرائيل» أظهرت عدم رغبتها في التوصل إلى تسوية سياسية مع فلسطين على أساس تسوية تفاوضية حتى ضمن «عملية سلام» متحيّزة تشرف عليها الولايات المتحدة كوسيط مناصر ل«إسرائيل». في الواقع، لن يكون هناك حل للصراع من دون ممارسة ضغوط دولية أكبر على «إسرائيل» لتقليص طموحاتها في الأراضي الفلسطينية.

مثل هذا المشهد يعكس النظرة المؤثرة التي من شأنها استعادة الوسائل القسرية لحث الصهاينة والقادة «الإسرائيليين» في كل مكان على إعادة التفكير في خياراتهم السياسية إلى جوانب خطوط أكثر تنويراً».

يرى فولك أيضاً في تمهيده أن جيرمي هاموند يقدم في عمله هذا نهجاً مختلفاً، ويجده مصراً على أنه ليس فقط «عملية السلام» في أوسلو ظهرت أنها تشكل جسراً للاشيء، بل إن الحكومة الأمريكية تقف في تواطؤ إجرامي مع ««إسرائيل»»، حيث عارضت عن قصد وبشدة أي خطوة من شأنها أن تقود إلى تأسيس دولة فلسطينية مستقلة. ومثل هذا التقييم يفرض تحدياً مباشراً للهدف المفترض لهذه المفاوضات، وهو حل الدولتين المؤكد بشكل عالمي. حتى أن بنيامين نتنياهو، في وقت ما، اقرّ بشكل ما الموافقة على إقامة دولة فلسطينية، على الرغم من أنه في حرارة حملة انتخابية في مارس/آذار 2015، أظهر وجهه الحقيقي لل«إسرائيليين» من خلال وعده أنه لا دولة فلسطينية يمكن أن تتحقق طالما أنه يشغل موقع رئاسة الوزراء.

وما عزز نفاق نتنياهو هو تعيين داني دانون المعارض المتطرف لإقامة دولة فلسطينية منذ فترة طويلة، كسفير «إسرائيلي» في الأمم المتحدة، ما شكل صفعة أخرى في وجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما. في هذا الجانب، كانت الولايات المتحدة هي التي سعت لإبقاء الوعد المعطوب لعملية السلام في أوسلو على قيد الحياة من خلال الإصرار على أنه الطريق الوحيد والأخير لإنهاء الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي».

علاقة خاصة

يشير الكتاب إلى أن الرؤساء الأمريكيين في العقود الأخيرة سعوا بكل جهدهم إلى وضع عوائق أمام عملية إنهاء الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، والحكومة الأمريكية انضمت إلى «إسرائيل» في جهودها لنبذ كل أشكال الضغوط الدولية لتغيير الواقع الحالي للاحتلال، من بينها المبادرات الفلسطينية للاعتراف بها كدولة كاملة العضوية في نظام الأمم المتحدة أو من خلال السعي إلى حلول لمظالمهم من خلال اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية.

ويبين الكتاب أن الولايات المتحدة ساعدت «إسرائيل» على استخدام عملية السلام في أوسلو كعملية تأخير من شأنها أن تعطي «تل أبيب» الوقت لتقويض كل التوقعات الفلسطينية بالانسحاب «الإسرائيلي» ونيل الحقوق السيادية الفلسطينية. ويوضح أن الفكرة «الإسرائيلية» هي أن ترمي بكل الحقائق جانباً سواء في مسألة المستوطنات أو شبكة الطرق الخاصة لليهود أو جدار الفصل العنصري وغيرها، لفرض حل الدولة «الإسرائيلية» المفروضة من جانب واحد يكون فيها الفلسطيني مواطناً من درجة ثالثة.

يؤكد هاموند في عمله أن «إسرائيل» لا يمكن أن تنفذ هذه المخططات في الاستيلاء على الأراضي المحتلة من الضفة الغربية والقدس الشرقية من دون الفوائد التي تتلقاها من «العلاقة الخاصة» مع الولايات المتحدة. ويفضح الواقع الشنيع والغادر الذي تلعب فيه الولايات المتحدة دوراً كبيراً، ففي الوقت الذي تدعي فيه واشنطن أنها تفاوض لإنشاء دولة فلسطينية، تقوم بكل شيء في إطار نفوذها لضمان أن «إسرائيل» تملك ما يكفي من الوقت لجعل الأمر أقرب ما يكون من المستحيل على الصعيد العملي. ويبين أن الدور الأمريكي يضمن الوقوف في وجه كل أشكال التوبيخ من الأمم المتحدة على انتهاكات «إسرائيل» المتكررة للقانون الدولي، خاصة مع تزايد الأدلة التي تبين بوضح سلسلة الجرائم التي ترتكبها بحق الإنسانية.

إعلام متواطئ

يوضح هاموند أن الإعلام في الولايات المتحدة يدعم الدور الأمريكي في مسألة الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، خاصة صحيفة «نيويورك تايمز» التي تنسجم مع آلة الدعاية «الإسرائيلية»، إذ تصور أن الولايات المتحدة تبذل كل شيء ممكن لتحقيق حل في وجه الرفض الفلسطيني المتصلب.

ويهدف هاموند، من خلال تحليله للإعلام الأمريكي وكيفية تداوله هذا الصراع، إلى إيقاظ الشعب الأمريكي على ما يحدث من تضليل، مطالباً إياهم ببذل ما يمكن لتحدي هذه العلاقة الخاصة، واستبدالها بقيم العدالة والمصالح المشتركة التي تنسجم مع القيم الأمريكية والإنسانية الأصيلة، خاصة أنه يقدم العديد من الأدلة والأمثلة المتعلقة بالممارسات «الإسرائيلية» بحق الفلسطينيين والموقف الأمريكي الملتبس إزاءها، من أبرزها ما حدث في غزة من جرائم خلال سلسلة حروب شنها الاحتلال «الإسرائيلي» وخلّف ضحايا من المدنيين، وتهديم لمنازلهم، وتشريد الآلاف منهم، وكل ذلك على أمل تعبئة الرأي العام لإنتاج مناخ سياسي جديد يضطر فيها الرؤساء المنتخبون للسير وفق إرادة الشعب، والقيام بما يجب العمل به على الطريقة الأنسب، من موقعها كقوة عظمى، وبناء على القيم الأمريكية التي تعزز مفاهيم العدالة والمساواة والحرية.

ويبين أنه عند الإخلال بهذه «العلاقة الخاصة»، لا يمكن ل«إسرائيل» بأي شكل من الأشكال أن تستمر في سياستها الإجرامية بحق الفلسطينيين، ولن يكون هناك ما يقف عقبة أمام السلام مع تغيير موازين القوى، ومواجهة «إسرائيل» لحقائق جديدة على أرض الواقع، ما يمهد لحصول الفلسطينيين على حقوقهم في دولة ذات سيادة.

يتجاوز الكتاب في كونه يتناول الصراع الدور الأمريكي في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، إلى مناقشة دمار الثقة في العلاقة بين الحكومة الأمريكية ومواطنيها، والفشل الكارثي للإعلام في عمله كوصي على الحقيقة في تنفيذ واجباته الصحفية بطريقة تناسب المجتمع الحر.

سياسات إجرامية

يقول هاموند في خاتمة الكتاب: «منذ أن تم الاعتراف بفلسطين كدولة من قبل الأمم المتحدة، لم يتوقف الحصار على غزة والعنف بحقها، من بينها هجمة عسكرية كاملة النطاق شنتها «إسرائيل» ضد قطاع غزة تجاوزت عملية الرصاص المصبوب في المدة وفي عدد الوفيات. قتل فيها 2192 فلسطينياً، على الأقل 1523 منهم – أكثر من الثلثين – كانوا من المدنيين، من بينهم 287 امرأة و512 طفلاً. العملية التي استمرت لخمسين يوماً سميت «الحافة الوقائية» شنتها «إسرائيل» في 8 يوليو/تموز 2014، وانتهت بوقف إطلاق النار في 26 أغسطس/آب. مرة أخرى، وجّه الإعلام الأمريكي باللائمة إلى الفلسطينيين، على الرغم من أن واشنطن أدركت قدرتها المحدودة هذه المرة لإدارة التصورات، وانضمت إلى بقية العالم لانتقاد «إسرائيل» على قصف مدارس تابعة للأمم المتحدة»

ويضيف: «في الوقت الراهن، هناك تقسيم لا حدود له بين داعمي الحقوق الفلسطينية حيال مسألة إذا ما كان حل الدولة الواحدة أو الدولتين هو المفضل. إذا ما كان الحل لدولة ديمقراطية واحدة هو المفضل، فالخطوة الأولى نحوها هي إدراك ضرورة تنفيذ حل الدولتين بالتوافق مع الإجماع الدولي. القبول بدولة مؤلفة من 22 في المئة من فلسطين السابقة تشمل غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، يجب ألا يشكل تنازلاً عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين لإعادتهم إلى موطنهم، ومن غير الواقعي التركيز على تحقيق ممارسة ذلك الحق، طالما أن الاحتلال ونظام المستوطنات ما زال مستمراً. فقط حينما ينتهي الاحتلال وتتخلى الحكومات العالمية عن دعم العنصرية، ويتحقق استقلال فلسطين، من الممكن أن يأتي التركيز على تحقيق حل عادل لمشكلة اللاجئين بفرصة حقيقية مثمرة. فقط حينما يمارس الفلسطينيون سيادتهم، وتكون لديهم القوة السياسية المطلوبة، يجوز العمل على إعادة اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون على أمل العودة، ومطالبة «إسرائيل» بتعويض ضحايا التطهير العرقي».

كما يشدد في نهاية كتابه على ضرورة أن يتحمل الأمريكيون المسؤولية حيال ما تقوم به حكومتهم إزاء هذا الصراع، وأن يوجهوا جهودهم بشكل جماعي للتركيز على فضح الأكاذيب التي ينادي بها الإعلام الأمريكي، ولا بد للحقيقة أن تظهر، وأن يدفعوا الحكومة الأمريكية لعدم التورط في إراقة المزيد من الدماء، ودعم الاحتلال، وإزالة كل العوائق التي يمكن أن تقف في وجه عملية السلام في الشرق الأوسط بشكل عام.

ويقول الكاتب في آخر سطرين موجهاً كلامه للقراء الأمريكيين: «إن الأمر يعود لكم في كيفية استخدام المعرفة وأي تصور رأيتموه بين دفتي هذا الكتاب للمساعدة على إزالة العائق الأكبر الوحيد أمام حل سلمي وهو: السياسات الإجرامية لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية».

المصدر

http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/a7d0a84b-83ff-4d2f-b370-e276a94479fd#sthash.zlfWvFRx.dpuf